Mittwoch, Februar 06, 2008

رسائل من الأرض


"ولماذا لا تكون الحقيقة أغرب من الخيال؟ فالخيال،بعد كل شي، لابد أن يكون معقولا."
هذه بداية محاولة متواضعة لترجمة أجزاء من (رسائل من الأرض) إلى اللسان المتجلط (العربية)، تلك الروائع التي سطرها الكاتب والناقد الإجتماعي الأمريكي (مارك توين) في بداية القرن العشرين. وقد إشتهر توين بالحكم والأقوال التي أصبحت متداولة على مستوى ثقافي وشعبي، والتي تعبر بشكل موجز مرح عن مفاهيم عميقة غائرة. (سيرة مارك توين المختصرة)للإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.
Letters From The Earthby Mark Twain© Harper & Row, 1962, 1974
الخالق إستوى على العرش، يفكر. خلفه امتدت قارة السماء، غارقة في الضوء والألوان؛ وبين يديه قام ليل الفضاء الأسود، مثل الجدار. شمخ كلكله العظيم كالجبل الوعر صوب الذروة، وتوهج رأسه الإلهي هناك مثل الشمس النائية. عند قدميه وقف ثلاثة عمالقة، تقلصوا الى درجة التلاشي، تقريبا، بالمقارنة -- ملائكة العرش -- رؤوسهم على مستوى كاحله.عندما انتهى الخالق من التفكير ، قال : "لقد فكرت. ها!"رفع يده ، ومنها تفجرت ينبوع ترش النار، مليون شمس هائلة، فطرت السواد وارتفعت بعيدا وبعيدا وبعيدا، حجمها وبريقها في تناقص بينما تثقب حدود الفضاء البعيدة، إلى أن صارت في النهاية رؤوس مسامير ماسية تتألق تحت قبة سقف الكون الشاسعة.وفي نهاية ساعة فُض المجلس الأعلى.تركوا الحضرة الإلهية معجبين ومحملين بالأفكار، وذهبوا إلى مكان خاص، حيث يمكن أن يتحدثوا بحرية.لم يبد أن أحد الثلاثة كان راغبا في البدء، رغم أنهم جميعا أرادوا أن يبادر أحد ما بالحديث. كان كل منهم يحترق توقا لمناقشة الحدث العظيم، ولكن يفضل أن لا يلزم نفسه حتى يتعرف على نظرة الآخرين. لذلك دار بعض الحديث المتقطع بلا هدف، حول أمور لا طائل منها، وجر على طول مضجر دون الوصول إلى أية غاية، إلى أن جمع ملاك العرش (الشيطان) شجاعته--والتي كان له منها نصيب وافر-- وخرق الصمت، قائلا: "إننا نعرف ما نحن هنا بصدد الحديث عنه، يا سادتي، فمن الأفضل أن نضع التكلف جانبا، ولنبدأ. إذا كان هذا هو رأي المجلس--""هذا هو، هذا هو،" قاطع جبريل وميخائيل بإمتنان."جيد جدا، إذن، فلنباشر. لقد شهدنا شيئا رائعا؛ على ذلك نحن بالضرورة متفقون. اما بالنسبة لقيمته--إذا كانت هناك أية قيمة -- فذلك أمر لا يهمنا شخصيا. يمكن أن تتعدد آراءنا بشأنه كما نشاء، وتلك هي حدودنا. ليس لدينا اي تصويت. أنا أعتقد أن الفضاء كان جيدا بما فيه الكفاية، كما كان، ومفيدا ايضا. بارد مظلم-- مكان مريح، بين الحين والآخر، بعد موسم من الطقس المفرط النعومة والروائع المنهكة في الجنة. ولكن هذه تفاصيل لا إعتبار لها؛ السمة الجديدة، السمة الهائلة، هي--ماذا، أيها السادة؟""إختراع وعرض قانون تلقائي، بدون رقيب، منتظم ذاتيا، للتحكم في أعداد كبيرة من الشموس والعالمين الدائرة المتسابقة.""هذا هو،" قال الشيطان. "أنتم رأيتم أنها فكرة رائعة. لم يسبق لها مثيل من (الفكر السيد). قانون-- قانون تلقائي -- دقيق وثابت-- لا يتطلب أية مراقبة ولا أي تصحيح ولا تعديل إبان الخلود. قال جلالته أن تلك الأجرام الضخمة التي لاتحصى ستغوص عبر خلائات الفضاء عصورا وعصور، بسرعة لا يمكن تصورها، على مدارات هائلة، ورغم ذلك لا تصطدم أبدا، ولا تطول ولا تقصر فترات مدارها بقدر جزء من مائة من الثانية في ألفي عام! هذه هي المعجزة الجديدة، وأعظم المعجزات-- القانون التلقائي.. وأطلق عليه إسما --قانون الطبيعة-- وقال أن القانون الطبيعي هو قانون الله-- أسماء متبادلة لشيء واحد.""نعم،" قال ميخائيل، "وقال أنه سينشيء القانون الطبيعي--قانون الله--في جميع مواطن حكمه، وسلطته ينبغي أن تكون العليا ولا تخرق حرمتها.""أيضا،" قال جبريل، "قال أنه سيخلق حيوانات وسيضعهم بالمثل تحت سلطة هذا القانون.""نعم،" قال الشيطان، "سمعته ولم أفهم. ما هي الحيوانات يا جبريل؟""أه، كيف لي أن أعرف؟ كيف لأي منا أن يعرف؟ إنها كلمة جديدة."(فترة ثلاثة قرون، بالتوقيت السماوي-- ما يعادل مئة مليون عام بالتوقيت الأرضي. دخول ملاك الرسائل)"يا سادتي، إنه يصنع الحيوانات. هل يطيب لكم أن تأتوا وتشاهدوا؟"ذهبوا، وشاهدوا، واحتاروا--حيرة عميقة-- لاحظها الخالق وقال: "أسأل. سأجيب.""إلهي،" قال الشيطان ساجدا، "ما الغرض منهم؟""إنها تجربة في الأخلاق والسلوك. راقبوهم وخذوا التعليمات."هناك آلاف منهم، وكانوا ملآنين نشاطا. مشغولون، جميعهم مشغولون -- بإضطهاد بعضهم البعض أساسا. لاحظ الشيطان--بعد فحص أحدهم من خلال مجهر قوي: "هذا الوحش الكبير يقتل الحيوانات الأضعف، يا إلهي.""النمر--نعم. قانون طبيعته هي الوحشية. قانون طبيعته هو قانون الله. لا يستطيع أن يعصيه.""إذن، بطاعته لا يرتكب ذنبا، يا إلهي؟""كلا، لا حرج عليه.""هذا المخلوق الآخر، هنا، إنه خجول، يا إلهي، ويعاني الموت دون مقاومة.""الأرنب--نعم. هو فاقد الشجاعة. إنه قانون طبيعته--قانون الله. لا بد أن يطيعه.""إذن لا يمكن أن يطالب بشكل شريف أن يتعارض مع طبيعته ويقاوم، يا إلهي؟""كلا، لا يمكن بشكل شريف أن يطالب أي مخلوق بأن يتعارض مع فطرته-- قانون الله."بعد فترة طويلة وتساؤلات كثيرة، قال الشيطان: "العنكبوت يقتل الذبابة، ويأكلها. العصفور يقتل العنكبوت ويأكله؛ القط البري يقتل الأوزة؛ الـ --حسنا، إنهم جميعا يقتلون بعضهم البعض.. إنه إغتيال على طول الخط. هاهنا مجموعات غفيرة لاتحصى من المخلوقات، وكلها تقتل وتقتل وتقتل. كلهم قتلة، ولا لوم عليهم يا مولاي؟""لا لوم عليهم. إنه قانون طبيعتهم. ودائما قانون الطبيعة هو قانون الله--إنتبه--ها! مخلوق جديد--وتحفة--الإنسان!"رجال ونساء وأطفال جاؤوا يعجون أسرابا، قطعانا، بالملايين."ماذا ستفعل بهم يا إلهي؟""ضع في كل فرد، وبدرجات وأطياف مختلفة، جميع الصفات الأخلاقية المتنوعة، بالجملة، والتي وزعت في عالم الحيوانات غير الناطقة كل سمة مميزة على حدة--الشجاعة، الجبن، الشراسة، الدماثة، الإنصاف، العدالة، الخداع، الغدر، الشهامة، القسوة، الخبث، الشهوة، الرحمة، الشفقة، النقاء، الأنانية، الحلاوة، الشرف، الحب، الكراهية، الخسة، النبل، الإخلاص، البطلان، الصدق، الكذب -- كل إنسان سيحمل كل هذه الصفات في شخصه. وهي التي ستشكل طبيعته. في البعض، ستكون هناك سمات راقية تغمر أشرارهم، وأولئك سيعرفون بالصالحين؛ وفي آخرين، ستسود السمات الشريرة، وأولئك سيعرفون بالسيئين. إنتبه--ها--إختفوا!""إلى أين هم ذهبوا ، إلهي؟""إلى الأرض -- هم وجميع زملائهم من الحيوانات"."ما هي الأرض؟""كرة صغيرة صنعتها منذ زمن... زمنين ونصف زمن. أنتم رأيتوها ولكن لم تلاحظوها في إنفجار الكواكب والشموس التي تدفقت من يدي. الإنسان تجربة، والحيوانات الأخرى تجربة أخرى. والزمن كفيل بأن يرينا ما إذا كانوا جديرين بالعناء. إنتهى العرض، ولكم الإذن بالخروج يا سادة."مرت عدة أيام. هذا يعني فترة طويلة من زمنـ(نا)، لأن اليوم في الجنة يساوي ألف سنة. الشيطان كان يبدي إعجابه في ملاحظات حول بعض صناعات الخالق المتألقة--ملاحظات يجري فيها التهكم بين السطور. وكان قد أسر بها لأصحابه الأمناء، ملائكة العرش الآخرين، لكن بعض الملائكة العاديين سمعوا ونقلوا الخبر إلى مقر القيادة. جاء الأمر بنفيه لمدة يوم--من أيام السماء. وكان عقابا تعود عليه بسبب مرونة لسانه. وقد تم ترحيله سابقا إلى الفضاء، لأنه لايوجد مكان آخر لإرساله، وكان قد رفرف ضاجرا هناك في الليل الأبدي والبرد القطبي؛ أما الآن فقد خطر بباله أن يتمادى ويتصيد الأرض ليرى تطورات تجربة الإنسان.ومع مرور الزمن راسل الوطن--بإستتار شديد--ليخبر عنها سيدنا ميخائيل وسيدنا جبريل.
رسالة الشيطانهذا مكان غريب، خارق للعادة، ومثير للإهتمام. ليس له شبيه في الوطن. الناس كلهم مجانين، والحيوانات الأخرى كلها مجانين. الأرض مجنونة. الطبيعة ذاتها مجنونة. الإنسان فزورة رائعة. في أحسن أحواله، هو ملاك من النوع الرديء المطلي بالنيكل، وفي اسوأ أحواله لا يوصف، ولا يمكن تصوره؛ وأولا وأخيرا ودائما هو مدعاة للتهكم. ولكنه بكل برودة وبكل إخلاص يطلق على نفسه اسم "أنبل أعمال الله". هذه هي الحقيقة، انا اقول لك. وهذه ليست فكرة جديدة عنده، فقد تحدث بها خلال جميع العصور، وصدقها. نعم، صدقها، ولم يجد أحدا بين جميع بني جلدته ليسخر منها.علاوة على ذلك -- اذا جاز لي وضع ضغط آخر عليكم -- يظن انه هو أليف الخالق. يؤمن بأن الخالق فخور به؛ بل حتى بأن الخالق يحبه؛ ويتقد توقا إليه؛ يسهر الليالي معجبا به؛ نعم، يرعاه ويقيه من المحن. هو يصلي لله، ويعتقد انه سميع. أليست هذه فكرة حلوة؟ يملأ صلواته لله بالتملق العاري الركيك، ويعتقد أنه يجلس مقرقرا مع هذه الأتراف ويتلذذ بها. يدعو من اجل المساعدة، والمحاباة، والحماية، كل يوم؛ ويفعل ذلك بأمل وثقة أيضا، رغم أنه لم يستجاب له دعاء واحد قط. الإهانة اليومية، الهزيمة اليومية، لا تثنيه، فهو يمضي في صلاته بلا تغير. ثمة شيء قريب من الرقي في هذه المثابرة. ولا بد لي من طرح المزيد من الضغط عليكم: انه يعتقد انه ذاهب الى الجنة!عنده معلمون يتقاضون رواتب وهم من يخبره بذلك. كما أنهم يخبروه بأن هناك جحيم من نار أبدية، وانه سيذهب إليه إذا لم يتبع الوصايا. ما هي الوصايا؟ إنها مثارة فضول. سأخبركم عنها لاحقا.

--يتبع

أنسنة الإنسان ونبذ السياسة

إن تراكم الخبرات والممارسات عبر التاريخ والأجيال لصناعة الحضارة الإنسانية اسهمت في رقي الإنسان وتحضره، فلا يمكن إدخال الإنسان الفطري لعالم المجتمع دون العمل على حقن منظومة عقله بالأنظمة والأعراف والتقاليد الاجتماعية ليكون إنساناً سوياً وصالحاً في المجتمع. وإلا فإنه ينحاز لسلوكياته وممارساته الفطرية المتعارضة مع الوعي المشكل تاريخياً، فيلحق الأذى بنفسه والمجتمع معاً.ومع تطور الحاجات والمتطلبات للإنسان عبر الزمن، أصبحت المصالح تحكم تصرفاته وسلوكه لحصد المكاسب. وزادت حدة المنافسة لتحقيق الذات، وبذات الوقت تراجعت العلاقات الإنسانية لتبرز أكثر النوازع غير المشروعة لتحقيق المكاسب وعلى حساب الآخرين.هذه (الردة!) عن المكتسبات الحضارية للإنسان الاجتماعي لصالح الإنسان الفطري، تبرز بوضح في سلوك وممارسة السياسيين خاصة منهم الجهلة والأميين الذين استطاعوا تجيير الصراع الاجتماعي لتحقيق ذواتهم وعلى حساب فئات المجتمع المحتكمة لعواطفها دون تفكيرها.هذه المجتمعات المتخلفة، مجتمعات تسد رمق جوعها بالوعود، وتكرس جهلها بالغيبيات، وتبحث عن مشاجب قدرية لتعليق أسباب خساراتها وتخلفها، تبحث عن المُنقذ، الصنم، الديناصور الذي يجييد حقن وجدانها بالشعارات الفارغة وبالوعود الكاذبة.إن ردة المجتمعات المتخلفة إلى عالم الوثنيات وعبادة الأصنام والطواطم...ليست ردة دينية وإن تلحفت بعباءة الدين. إنها ردة سياسية نتيجة حقن متواصل من الفيروسات والملوثات السياسية في وجدانها.السياسة تراجعت قبل المجتمعات إلى عالم الوثنيات. السياسيون الجهلة والأميون، هم نتاج قاع المجتمع، وبتغيب نخب المجتمع من العلماء والمثقفين أصبحت السيادة للجهلة والأميين في عالم السياسة.ولم تعد السياسة، علم لإدارة شؤون الدولة والمجتمع في المجتمعات المتخلفة، وإنما أصبحت عالماً من الشيع والطوائف والممل والكيانات الحزبية، لكل منها صنم تعبده وتقدم الولاء والطاعة والقرابين له وتتصارع فيما بينها لفرض صنمها على الآخرين.المجتمعات المتخلفة دخلت سوق المزاد السياسي لتبيع ربها الأوحد، بعد أن عبدته لعصور خلت، باعت إله الإنسانية واشترت أصنام جديدة تعبدها. جاهدت في تشيد دور لعبادة الأصنام في الكيانات الحزبية...كفرت بإنسانية الإنسان، واعلنت الجهاد في قومياتها وطوائفها وعشائرها لنحر الرب الذي جمع شتاتها وخاط وشائج صلاتها المشتركة، وحقن وجدانها بمفاهيم إنسانية.هذه المجتمعات المرتدة، العابدة لأصنامها من السياسيين. اليوم تدفع ثمن ارتدادها، يعاقبها الرب على أفعالها ونوامسيها الجديدة. لقد تهيأ لها إنها نحرت رب الإنسانية لتنصب مكانه أصنامها من السياسيين، تعبدهم، وتقدم فروض الطاعة إليهم، وهم يرفسونها، تحتقرونها، ويوغلون في إهانتها.لاعبادة، لأي إله أو صنم غير رب الإنسانية الخالد ابداً...المتسامح، الجامع للكلمة، الموحد للمشاعر والأحاسيس بين البشر.يقول ((كونت هيوم))"يجب عبادة إنسانية الإنسان ذاتها، إنسانية الإنسان المتطورة التي تعني تجاوز الإنسان الحدود والتي عبرت عن ذاتها في أفراد أستطاعوا تحقيق هذا التجاوز في أشكال إيجابية، أي مفيدة في خدمة الإنسانية".إن خلاص المجتمعات المتخلفة من بؤسها وفقرها وتناحرها، لايتم إلا من خلال تحطيم الأصنام المستحدثة من السياسيين الجهلة والأميين، والعودة لوجدانها، إلى ضميرها المستتر، إلى خزينها الحضاري، إلى التراكم الإنساني عبر العصور..إلى ربها الأوحد..رب الجميع..إله الإنسانية.حتى تتطهر المجتمعات المتخلفة من رجسها، وتكفر عن ذنوبها..على كل قومية، وطائفة، وأثنية منها أن تحطم أصنامها من السياسيين. أن تشهر حرابها لنحرهم أمام مذبح الإله الموحد (رب الإنسانية) وأن تكفر من يعبد غير ربها الأزلي عبر العصور..حينها سيرضى عنها الإله..وحينها فقط ستتقدم وتتطور!.يدعو ((كونت هيوم)) المجتمعات المتخلفة إلى:"الإنسانية، الإله المتطور الذي تجاوز فيه الإنسان الآلهة السابقة التي أصبحت غير قادرة على استيعاب وضبط الأوضاع الجديدة. بكلمة أخرى ما يتجاوز الإنسان في الإنسان. الإنسانية التي تجدد ذاتها في المنجزات والممارسات التي تتجاوز فيها ذاتها".السياسة، تراكم خبرات وممارسات وسُبل لإدارة شؤون الدولة والمجتمع للإرتقاء بالإنسان لمراتب أسمى. إنها ممارسات لرجال دولة، لتخصصات وخبرات علمية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع.لا لسياسيين جهلة وأميين، وبيادق شطرنج، وعبيد للجاه والمال..لا لسفلة وجواسيس وكائنات مخبرية (فيروسية) حُقنت في وجدان مجتمعات لها تاريخيها ومساهماتها في الحضارة الإنسانية، وظيفتها الأساس إضعاف الوشائج والصلات الإنسانية بين مكونات الإمة، وإثارة النعرات وزرع الفتن بين فئات المجتمع التي تعايشت عبر العصور وجاهدت عبر الأجيال لبناء حضارات تفخر بها الأجيال الحاضرة.هذه الفيروسات المستحدثة من السياسيين المحقونة قسراً في وجدان المجتمعات بغرض إنهاء مقومات حضاراتها، والقضاء على مشتركاتها الأزلية، يجب القضاء عليها، لأنها علة العلل، لتعود الأمة إلى ذاتها، إلى صلاتها الإنسانية المشتركة لتفخر الأجيال القادمة بها.

ظاهرة الحقد والعدوانية في المجتمعات المتخلفة

إن العنف والقهر الذي يتعرض له الإنسان في المجتمعات المتخلفة، يولد لديه نوعاً من الخيبة والانكسار والعجز من تغير الواقع المستبد الذي يتعرض له.
ومع الزمن تبرز آثارها النفسية المدمرة على كينونة الإنسان وعبر أشكال متعددة من الحقد والعدوانية ضد الآخرين. الإنسان الذي تعرض لحالة القهر والعنف لمدة طويلة، تجده مستفزاً بشكل دائم ويتصرف بعدوانية تختلف وتيرتها، باختلاف آثار العنف والقهر الناخرة لذاته. فالعدوانية هي تعبير عن الحقد الكامن في الذات المقهورة لأمد طويل، وما لم يتم طرحها إلى خارج الذات عبر افتعال (المعارك والشجارات) في محيطه ستلحق الأذى الكبير بالكينونة ذاتها.ويرى ((أنطونيني))" أن هناك في كل الحالات تقريباً جهداً لطرد العدوانية إلى خارج الذات بغرض نفيها والتعامي عنها وعدم بقاءها في الذات. فاكتشاف الحقد الكامن في الذات يسبب حالة من القلق، والبحث عن الشر عند الآخرين، كمحاولة لنفي الشر عن الذات". وهناك مسببات عديدة لتراكم الحقد في الذات منها حالة العجز التي يصاب بها الإنسان المقهور، لعدم قدرته على تغير واقعه. وكذلك حالة الفشل في خوض التنافس الاجتماعي، مما يسبب نوع الإحباط ويولد حالة من الحقد ضد الآخرين.كما أن حالة الشعور الدائم بالدونية والنسب الوضيع والشكل القبيح والتحصيل العلمي المزيف وعقدة النقص.. كعوامل ذاتية، إضافة إلى العوامل القهرية الأخرى تؤدي إلى حالة من الشلل في القدرة على تحقيق الذات. وهذا يؤدي بدوره إلى حالة من الشعور بالذنب والتأنيب للضمير مما يمهد الطريق لظهور نوازع من الحقد الكامن في الذات ضد المجتمع باعتباره المسؤول المباشر عن حالة الفشل والإحباط والحط من قدرة الكينونة وفشلها في إيجاد دوراً لها في المجتمع.إن تلك المواصفات السلبية حينما تنغرس في كينونة الإنسان المقهور، يصبح سهل الانقياد من قبل مجموعات الشر. ويتم توظيف عدوانيته في محاربة أصحاب النسب الرفيع والمرتبة الاجتماعية المرموقة والمستوى العلمي المشهود..لأجل تحقيق التوازن النفسي والإقناع الكاذب للذات بأنها لاتقل شأناً عن مستوى النخبة في المجتمع!. ويعبر ((يونج)) عن تلك الحالة من الشعور بالذنب قائلاً:" لايشعر المرء بالذنب أثر ارتكابه لفعل ممنوع حسب، بل أيضاً عندما لايستطيع تحقيق ذاته وفرض شخصيته في المجتمع. وهذا الشعور بالذنب هو الذي يولد حالة من العدوانية غير المحدوة ضد الآخرين".ويمكن رصد الحالة العدوانية متأصلة بشكل أكبر في عناصر القاع في المجتمع، كونهم يشعرون في اللاوعي أنهم خارج حدده ومرفوضين اجتماعياً. وهذا الشعور يدفعهم أكثر، لخرق القانون والتجاوز على الأعراف الاجتماعية.لذا فأن تصرفاتهم وسلوكهم، يبدو في أغلب الأحيان شاذاً ومنافي للأعراف الاجتماعية ومنتهكاً للقانون. وكلما شعر هؤلاء بالهوة التي تفصلهم عن المجتمع، كلما زادت وتيرة الحقد لديهم وبالتالي عدوانيتهم ضد المجتمع.وهذا الأمر أيضاً يدفعهم أكثر نحو التعبير اللاإرادي عن حالة الحقد الكامنة في ذواتهم من خلال إبراز عدوانيتهم ضد الآخرين. وتظهر التصرفات العدوانية أكثر في داخل الوسط أو البيئة المعزولة اجتماعياً (أي بين أفراد المجموعة ذاتها) بغرض إخضاع بعضهم للبعض الآخر، مما يسفر عن تشكيل (عصابات) منظمة (إلى حد ما) تسعى لإخضاع مجموعات أخرى من ذات الوسط لهيمنتها وسطوتها وعبر استخدام أساليب من التهديد والإساءة والعنف. وعندما تعجز القوة (أو تتساوى) عن إخضاع المجموعات المتماثلة، تتحالف فيما بينها على فعل الشر ضد المجتمع. هذا الاصطفاف في مجتمع القاع (عالم الجريمة) المدفوع بهواجس الحقد والعدوانية عندما يأخذ شكله المفترض من التنظيم (المافيا) في المجتمعات المتخلفة، يبحث عن مظلة قانونية لحمايته من خلال إيجاد شكلاً من أشكال العلاقة مع أجهزة القمع (الشرطة، أو الأجهزة القمعية الأخرى) لتقاسم أرباح تجارة الممنوعات من المخدرات والأسلحة..وغيرها.أو بغرض تبادل المصالح المشتركة حيث تعمد سلطة الاستبداد للتغاضي عن جرائم عصابات القاع ضد المجتمع مقابل تكليفهم بتنفيذ مهمات قذرة كالاعتداء بالضرب والإهانة أو لتصفية المعارضين جسدياً لحساب السلطة. بغرض تبرئة سلطة الاستبداد من تلك الانتهاكات والجرائم واعتبارها جنح ارتكبتها العناصر الخارجة عن القانون ضد المعارضين، ولاتأخذ طابعاً سياسياً، يمكن أن تستثمرها الجهات المعارضة ضد السلطة. وفي حالة افتضاح أمرهم وعملهم لحساب السلطة، يتم تصفيتهم لإخفاء أي أثر لجرائم السلطة. ومن خلال تبادل المصالح بين عصابات الجريمة المنظمة وسلطة الاستبداد للانتقام من المجتمع. تحقق سلطة الاستبداد غايتها البعيدة المدى، وهي إشغال المجتمع بالدفاع عن نفسه ضد عصابات الجريمة المنظمة. وبنفس الوقت كسب ولاء قطاعات واسعة من المجتمع لجانب الدولة لطلب الحماية لردع تلك العصابات وتحقيق الأمن.وحينها تشن سلطة الاستبداد حملة (صورية) على عصابات الجريمة المنظمة، وتجري تصفيات جسدية علنية لبعض أفرادها لغرض تكريس الاعتقاد لدى العامة من الناس، بأن السلطة قادرة على حماية المجتمع. وما تمارسه من استبداد وعنف، لايعدو سوى رد فعل ضد الخارجين على القانون. وبنفس الوقت تدخر رؤساء تلك العصابات لمناسبات أخرى، بغرض تنفيذ مهمات قذرة ضد المجتمع من أجل تعزيز سلطتها ولأمد غير محدود. تلك هي إحدى الأساليب الخسيسة التي تلجأ إليها سلطة الاستبداد لابتزاز المجتمع وإخضاعه بشكل قسري، من خلال تقليص الخيارات على المجتمع وإجباره على القبول بنهجها التعسفي والظالم مقابل توفير الأمان له!.ويتعاظم دور عصابات الجريمة المنظمة أكثر في ظل غياب سلطة القانون أو ضعف أجهزة السلطة القمعية أو فسادها، مما يؤدي إلى تعدد السلطات داخل المجتمع. بالنتيجة تعم الفوضى ويختل الأمن، وهذه الحالة الأمنية الشاذة تضع المجتمع وجهاً لوجه مع عصابات الجريمة المنظمة. وتلجأ فئات المجتمع لاستخدام العنف المضاد للدفاع عن نفسها، مما يؤدي لتنامي حالة الحقد المضاد ضد عصابات الجريمة المنظمة وأداء السلطة الضعيف. ويخلق البيئة المناسبة لنمو السلوك العدواني بين أفراد المجتمع.ويعتقد ((مصطفى حجازي))" إن السلوك الجامح دوماً مؤشر، يتجسد في تصرف بعض الأشخاص الخارجين عن القانون للدلالة على ما يكمن باطنياً في بنية المجتمع من اضطراب وعدوانية كامنة قابلة للانفجار في ظروف معينة. وكلما زاد حجم التصرفات الجانحة، كلما زاد احتمال انفجار العنف بشكل أكبر لأن الأزمة الكامنة في بنية المجتمع تمر بمأزق حقيقي".عموماً أن حالة الحقد الملازمة للإنسان المقهور، وما ينتج عنها من عدوانية تطال محيطه. يمكن إرجاعها إلى دوافع بيولوجية يختص بها الإنسان دون الحيوان، مع الأخذ بعين الاعتبار شروط نموها وتحولها المفترض نحو العدوانية. إن الأسباب الكامنة وراء تنامي الحقد لدى الإنسان، ليس لها ما يسندها في عالم الحيوان لأن تنافس الحيوانات فيما بينها يعود لدوافع أخرى لاتترك أثراً لتنامي الحقد. لكنها لاتخلوا من عدوانية بسبب التنافس على تحقيق الغزائر الطبيعية، وتتلاشى تلك العدوانية بين أفراد المجموعة ذاتها حال خضوع الطرف الضعيف منها إلى الطرف القوي.ويصف ((أنطونيني)) الفارق بين عدوانية الإنسان والحيوان قائلاً:" أن الحقد هو أهم ما يميز عدوانية الإنسان عن عدوانية الحيوان، فليس هناك حقداً بين الحيوانات، كما أنها لاتصل أبداً إلى درجة الاستغلالية عند الإنسان. فالحقد هو عدوانية تتجاوز حدودها البيولوجية لتصل إلى حالة نفسية خاصة".ولتخفيض وتيرة العدوانية بين أفراد المجتمع، يتطلب إجتثاثاً لمسببات الحقد كـ ( حالة القهر والتعسف...) التي يتعرض لها الإنسان في المجتمعات المتخلفة. بالإضافة إلى مكافحة الأمية والجهل والفقر وإزالة الفوارق الطبقية غير الطبيعية بين أفراد المجتمع والناتجة عن حالات الاستغلال غير الإنسانية للفئات المسحوقة في المجتمع.إن إحقاق العدالة والمساواة في المجتمع، كفيلاً بانتزاع مبررات الكراهية والحقد واللجوء للعنف والعدوانية لتحقيق الذات المستلبة. وهذا الأمر يتطلب سلطة قوية وعادلة، تفرض القانون على سائر فئات المجتمع دون استثناء وتعيد ثقة المواطن بالدولة كراعية لمصالح المجتمع.