Freitag, Juli 29, 2011

تسعة مداخل لتحليل الوضع في سورية..!!
حسن خضر
الثلثاء 26 نيسان (أبريل) 201


كيف نفكر في ما يحدث في سورية؟

أولاً، الرهانات على سورية كثيرة وكبيرة. فما يحدث هناك يؤثر سلباً وإيجاباً على اللعبة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، بما فيها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وحاضر ومستقبل الثورات الشعبية في العالم العربي، والعلاقات العربية ـ العربية، والعربية ـ للتركية، والعربية ـ الإيرانية.

أصدقاء النظام السوري في الشرق الأوسط يعدّون على أصابع اليد الواحدة: إيران، وحزب الله، وحماس. لذلك، يصعب القول إن أحداً ما عدا هؤلاء سيذرف الدمع في حال غيابه.

ثانياً، ولكن ماذا عن إسرائيل؟

إسرائيل لا تحب النظام السوري، بالتأكيد، ولكنها تتصرف بطريقة تنسجم مع مأثور العرب عن العدو العاقل، الذي يكون في حالات كثيرة أفضل من صديق جاهل. وقد كان النظام على مدار أربعة عقود عدواً عاقلا: حافظ على الهدوء في الجولان، وخاض أشكالاً مختلفة من المجابهة والكر والفر في أراضي وعلى حساب طرف ثالث. لعبة تحكمها ضوابط تعوّد عليها الطرفان.

ومع تعديلات طفيفة يمكن القول إن الأميركيين لن يذرفوا الدمع على النظام، لكنه يبقى في نظرهم عدواً عاقلا، وكان في حالات بعينها حليفا ضرورياً، كما حدث بعد الغزو العراقي للكويت، عندما انضم النظام إلى التحالف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت.

ثالثاً، يعتبر النظام القائم حالياً في دمشق أحد آخر الأنظمة الستالينية في الكون: نظام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد، والبرلمانات الوهمية، وأجهزة الإعلام المُحتكرة من جانب الدولة، والشعب المسكون بالرعب من أجهزة الأمن، وأجهزة الأمن كلية القدرة والجبروت.

العمر الافتراضي لهذا النوع من الأنظمة انتهى منذ عقدين من الزمن. ومع ذلك، ثمة بقايا أركيولوجية مثل كوريا الشمالية، وهي جمهورية وراثية، تبدو مثل درنة غريبة الشكل في خاصرة العالم.

رابعاً، إذا كان العمر الافتراضي لهذا النوع من الأنظمة قد انتهى على صعيد العالم، فإن العالم العربي يُعتبر متحفاً هائل الحجم لأنظمة دخلت في تكوينها قطع غيار ستالينية ومملوكية وعثمانية وسلطانية.

وإذا كان ثمة من معنى لربيع الشعوب العربية، فإن المعنى يتجسّد في تفكيك قطع الغيار، وتسمية الأشياء بأسمائها. وهذا يضيف عبئاً جديداً على عاتق النظام في دمشق. فلنتأمل ما حدث ويحدث في طرابلس، وصنعاء، والمنامة، ودمشق، وقبلها في تونس والقاهرة. ثمة أنظمة ومجتمعات مختلفة، لكن الشعار الذي يردده الناس في الشارع: الشعب يريد إسقاط النظام.

خامساً، في التجربة الصينية ما يوحي بأن نظام الحزب الواحد يستطيع قيادة الدولة والمجتمع في مشروع طموح للتنمية الاقتصادية، وبأن الغالبية العظمى من المواطنين تخسر حريّات أساسية مقابل الحصول على مكاسب مادية فردية وجمعية.

ومع ذلك يختلف النظام القائم في بكين عن مثيله في دمشق، وكلاهما شمولي. نقاط الاختلاف: الصين ليست جمهورية وراثية. النخبة الحاكمة في الصين لا تنتمي إلى طائفة بعينها. لا تلعب شبكات القربى والنسب، وشبكات المصالح التجارية والمالية في الصين الدور نفسه الذي تلعبه مثيلاتها في سورية. ومع هذا كله وفوقه وقبله لا يتبنى النظام في دمشق مشروعاً طموحاً للتنمية.

سادساً، حتى وإن كان من السابق لأوانه الكلام عن الضوء في نهاية النفق السوري، إلا أن ثمة حقائق تستدعي التأمل. ومن أبرزها أن بعض الأنظمة غير قابل للإصلاح، والنظام السوري من بينها.

فالإصلاح يعني الحد من الصلاحيات المُطلقة للنخبة الحاكمة والمهيمنة، وقبولها باقتسام مصادر الثروة والسلطة مع شركاء آخرين. بهذا المعنى ثمة ما يشبه إعادة الهيكلة لمنظومات الضبط والسيطرة الأمنية والسياسية والمالية. وهذا، على الأرجح، غير ممكن في الحالة السورية، طالما أن إعادة الهيكلة تنطوي على خطر فقدان السلطة، وانهيار النظام.

سابعاً، لن يتكرر النموذجان التونسي والمصري في الحالة السورية. ففي مصر وتونس حسم الجيش الصراع على السلطة بين الحاكم والشعب، وفي الحالة السورية فإن النموذج الليبي أقرب إلى الأذهان، في حال استمرت المجابهة بين القوات الأمنية للنظام، والمتظاهرين، خاصة وأن الرهانات الكثيرة والكبيرة للقوى الإقليمية والدولية تسوّغ للبعض محاولة التدخل لتحديد النتيجة النهائية للمجابهة، سواء لصالح النظام أو ضده.

وهذا لا يعني، بالتأكيد، القبول بكلام النظام عن الإمارة الإسلامية في درعا. لن يأخذ أحد كلام النظام في هذا الشأن على محمل الجد. ولا فائدة حتى من التذكير بأن القذافي وبن علي وعلى عبد الله صالح استخدموا كلاماً مشابهاً.

ثامناً، ما حدث على مدار الأيام القليلة الماضية يوحي بأن النظام اختار مجابهة المتظاهرين بالقوة المفرطة. في رصيده سوابق كثيرة وقعت أبرزها في مدينة حماة في الثمانينيات. بيد أن الأمر مختلف هذه المرّة، فالسابقة المذكورة لم تقع في سياق موجة شعبية عارمة تجتاح العالم العربي، بل في سياق مجابهة مسلحة مع جماعة إسلامية شنت هجمات إرهابية طالت مدنيين. وما تشهده المدن والقرى السورية هذه الأيام يتمثل في مظاهرات شعبية سلمية، تشارك فيها فئات اجتماعية مختلفة.

تاسعاً، هل يستطيع النظام المضي في المجابهة، بكل ما تنطوي عليه من تنكيل وسفك للدماء، دون تصدّع أجهزته الأمنية، ووقوع انقسامات في أوساط النخبة الحاكمة، والجيش، وأجهزة الدولة؟ وهل يستطيع المضي في المجابهة دون التعرّض لضغوطات وعقوبات من جانب المجتمع الدولي؟

في البحرين، مثلاً، تمكنت النخبة السائدة، بالتعاون مع السعوديين، وحكام المشيخات النفطية، من قمع المتظاهرين بقسوة بالغة، بينما أغمض العالم عينيه. وفي اليمن يثير احتمال الحرب الأهلية ذعر القوى الإقليمية والدولية، فتتصرف كمن يمشي في حقل ألغام. وفي ليبيا تدخل المجتمع الدولي بالطائرات.

يجب ألا نتوقع موقفاً واحداً في جميع الحالات. وبالقدر نفسه يجب ألا ننتظر من القوى الإقليمية والدولية أن تبني حساباتها على قيم تنسجم بالضرورة مع مطالب المتظاهرين في جميع البلدان. ثمة مصالح متعددة ومتضاربة.

وفي سياق كهذا تبقى الأسئلة الداخلية والخارجية، في الشأن السوري، مفتوحة. فهذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة. كل ما نعرفه الآن أن النظام يحاول القضاء على المعارضة بالقوة، وأن المتظاهرين في سورية هتفوا: الشعب يريد إسقاط النظام.

كاتب فلسطيني يقيم في برلين

عن ساحة المرجة، والثورة، وأدونيس

عن ساحة المرجة، والثورة، وأدونيس..!!
حسن خضر

كنتُ، قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً، شاهداً على الحادثة التالية في ساحة المرجة في دمشق: يمشي اثنان من أفراد سرايا الدفاع على مهل، سرايا الدفاع ميليشيا شكّلها رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري، لحماية النظام، وكان اسمها يثير الرعب في تلك الأيام. المرجة ساحة رئيسة في دمشق. هنا، أعدم جمال باشا معارضي السلطنة العثمانية، وهنا أيضاً ألقى الفرنسيون جثث أبطال الثورة السورية الكبرى بعد إعدامهم.

لم تكن المرجة مجرّد ساحة رئيسة. المرجة ساحة للذكرى، أيضاً. وقد كانا هناك، أراهما الآن، مثلما رأيتهما قبل ثلاثة عقود، يرتديان ملابس عسكرية مرّقطة، ويمشيان الهوينا، مشية الواثق والأرعن معاً.

فجأة، اصطدم أحدهما، دون قصد، بطاولة صغيرة وضع عليها أحد الباعة ما لا يحصى من الأمشاط، والدبابيس، والأشياء الأخرى التي يبيعها الفقراء للفقراء. صاح البائع الفقير بطريقة لا إرادية، حتى قبل أن يرفع رأسه ليرى ذلك الذي أطاح بمقتنياته ومعروضاته الكثيرة، التي لا تساوي شيئاً تقريباً.

عندئذ التفت جندي سرايا الدفاع، الذي لم يلتفت في البداية ليرى ما حدث، ونظر إلى البائع الفقير، الذي كان رجلاً في أواسط العمر، رث الهيئة والثياب، والذي تملكه الذعر على الفور، عندما التقت العين بالعين، وأدرك حقيقة الورطة التي أوقعته صرخته العفوية فيها.

عاد جندي سرايا الدفاع خطوات قليلة إلى الوراء، وركل ما تبقى على الطاولة بقدمه، قبل أن يلتحق بزميله الذي راقب المشهد بلا اهتمام، بينما أصيب البائع الفقير بخرس مفاجئ. أما نحن المارّة فتظاهرنا بعدم المبالاة. لم نر شيئاً، ولم نسمع.

ليس ثمة من إهانة أكبر وأبلغ من تلك التي لا تستطيع الرد عليها. في ظل النظام الشمولي تصبح الإهانة وجبة يومية، حتى لو لم تكن موجهة ضد شخص بعينه. الكذب في نشرة الأخبار اليومية في التلفزيون إهانة. التردد قبل التعبير عن رأي ما إهانة. مديح ما لا نطيق إهانة. الصمت على إهانة الآخرين إهانة. الإحساس المُطلق بالعجز إزاء نظام كلي القدرة والجبروت إهانة.

لا يمكن حصر الإهانات اليومية، التي تستهدف كينونة وذكاء وكرامة الإنسان، وتتجلى في ما لا يحصى من الحالات، والمفارقات، والمصادفات، وكل ما يتصل بالحياة اليومية لبني البشر.

لذلك، يمكن العثور على تفسير مباشر للثورة السورية في الشعار الذي أطلقه المتظاهرون منذ اليوم الأوّل: "الشعب السوري ما بينهان". وقد أهين الشعب السوري طويلاً وكثيراً.

وفي هذه الأيام يحق للسوريين والسوريات المقارنة بين الجلسة الطارئة لمجلس الشعب السوري، التي استغرقت ربع ساعة لتعديل الدستور قبل عشر سنوات، وتمكين الرئيس الحالي بشّار الأسد من الجلوس على مقعد أبيه رئيساً للجمهورية، وبين وعود الإصلاح العاجلة التي يطالب بها المتظاهرون، والتي يزعم النظام أن تحقيقها يحتاج إلى دراسة ولجان وحوار ومراجعات قانونية ودستورية.

لماذا عُدّل الدستور في ربع ساعة، بينما تحتاج الإصلاحات المطلوبة إلى سنوات؟ في سؤال كهذا يتجلى أحد المعاني المحتملة للإهانة.

لذلك، وفي ظل ما يجري في سوريا هذه الأيام، لا نملك سوى الوقوف باحترام وخشوع وإعجاب أمام بطولة السوريين والسوريات، الذين نزلوا إلى الشوارع منذ أربعة أشهر أولاً، لأن النـزول إلى الشارع لتحدى النظام في بلد كسوريا بطولة. وثانياً، لأن الصمود في الشارع لمدة أربعة أشهر في مجابهة نظام كهذا بطولة. وثالثاً، لأن القبول بالثمن المعلوم من الدم والدموع لتحدي النظام والنـزول إلى الشارع بطولة.

لم يحتل المتظاهرون ساحة المرجة بعد، لكن هذا سيحدث بطريقة أو أخرى في قادم الأيام، لأن الشعب في سوريا سينتصر على النظام في معركة رد الاعتبار، واسترداد حقوق المواطنة. أما كيف يحدث ذلك ومتى فسؤال مفتوح. الأكيد أن النظام في تراجع، وأن الثورة الشعبية في ازدياد.

تبقى مسألة أخيرة تتعلّق بما أثاره أدونيس من ردود فعل، بعدما أبدى تحفظات على هوية الثورة في سوريا، في رسالة وجهها إلى الرئيس السوري مطالباً إياه بالإصلاح. لا يمكن لأحد، بالتأكيد، أن يلوم أحداً على إبداء تحفظات إزاء الهوية الأيديولوجية لهذا الحدث الاجتماعي أو ذاك. ومع ذلك، هذه مسألة فرعية.

المهم تشخيص ما يحدث في سوريا، وما حدث ويحدث في بلدان عربية أخرى. نحن إزاء ثورات شعبية حقيقية، بصرف النظر عن تمركزات مستمدة من خصوصية التركيب الاجتماعي في هذا البلد العربي أو ذاك. والمهم، أيضاً، تشخيص هذه الثورات باعتبارها تسعى إلى عقد اجتماعي جديد. بالمناسبة لم يكن العقد الاجتماعي الموضوع الرئيس على جدول أعمال الانقلابيين العرب على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين.

والمهم، ثالثا، إدراك حقيقة أن الإسلام السياسي جزء من معسكر الخاسرين على المدى المتوسط والطويل. فحتى وإن تمكن من تحقيق تقدّم في العملية الانتخابية هنا أو هناك، إلا أن الموجة الديمقراطية الساعية إلى عقد اجتماعي جديد ستنتصر في نهاية المطاف. الإسلام السياسي لا يملك برنامجاً ديمقراطياً.

لذا، تصدر تحفظات أدونيس عن إخفاق في إدراك حقيقة الدلالة التاريخية للثورات العربية، أما رهانه على النظام السوري ليتولى مسألة الإصلاح، فينتمي إلى إخفاق مشابه في فهم طبيعة النظام المعني. والمسألة الأهم: في لحظة الدم، يملك المثقف رفاهية الشك، لكنه لا يملك رفاهية غض الطرف. الشعب السوري يرفض الإهانة، هذا كل ما في الأمر.

كاتب فلسطيني يقيم في برلين