Freitag, Juli 14, 2006

جيومارت الجد الاسطوري للبشرية

جيومـارت1الجـد الأسـطوري للبشرية
جمعة الداوود
توطئـة: بداية وقبل الولوج في موضوع صيرورة الإنسان من وجهة نظر الزارادشتية. يستحسن إلقاء نظرة تاريخية موجزة عن المراحل التي اجتازها الإنسان في تطوره العقلي. ومن ثم دراسة الموضوع (وجهة نظر الزارادشتية في الصيرورة البشرية) ضمن سياقه التاريخي. ليتسنى للمرء تكوين فكرة موضوعية عنه وبعد ذلك الحكم عليه أو اللجوء إلى المقارنة بغيره من وجهات النظر الدينية السابقة عليه أو اللاحقة له. ليكتسب طابع الإنصاف أكثر. فمنذ أن استضاف الإنسان هذا الكون. ومنذ بزوغ الفكر والوعي لدى هذا الكائن العجيب والذي امتاز عن غيره من الكائنات الأخرى بملكة العقل. ما فتئ يبحث هذا الإنسان عن إجابات لتلك الأسئلة الملحة والمتراكمة لديه بفعل الزمن والمرتبطة بوعيه. ولإشباع فضوله المتزايد تدريجياً والتي كانت تحيره وتقلقه وتسبب له الخوف في آن واحد. فكانت أسئلته تدور حول صيرورة الإنسان والكون.فبدأ بنفسه أولاً محاولاً معرفتها وسبب وجودها. ومن ثم بالظروف والبيئة التي كان يعيشها. لتنتهي تلك الأسئلة بالأرض التي تحمله والكواكب التي تحيط بها. فأسئلته كانت محددة على مر العصور وهي كيف ولماذا ومتى ومَنْ خلق الإنسان والكون؟ وما هو مصيره؟ وما الغاية من خلقه؟أما الأجوبة فكانت مختلفة على مر التاريخ. بل كانت الأجوبة ترصد حالة تطور العقل البشري على مر الزمن. بل وانعكاساً له. ففي البداية بدأ الإنسان يسقط تفسيراته اللامنطقية (حسب ما نراه اليوم) على تلك الأسئلة كمحاولة أولية للإجابة عليها. وهي بداية محاولة الإنسان لاستعمال عقله نظرياً. فدرج العلماء على تسمية هذه العملية بالأسطورة وهذه المرحلة من تاريخ تطور العقل البشري بالمرحلة الأسطورية. وهو ما يسمى بالعقلية الأولى. إذاً فالأسطورة هي الخطوة الأولى في تطور وارتقاء العقل البشري وهي بدت لنا الآن بأنها غير واقعية وغير منسجمة. إلا أنها توضح بصورة قاطعة العلاقة الحميمة ما بين الإنسان الفرد / الجماعة وحالته الوجدانية الفكرية المعاشية البدائية من خلال الخوف من الأعاصير، الفيضانات، البرق والرعد ..الخ. والمجهول ( البعد الكوني البعيد الشاسع، الشمس وهي متلبدة بالغيوم ومن ثم دافئة منقذة. وكذلك القمر والنجوم. والتخيل (تفسير كل ظاهرة بولادة إله).فالأسطورة إذاً تحمل في طياتها ولو جزءاً بسيطاً من الحقيقة. مثال (راكش يحارب الأسود الضارية)2 وكل شعب يخلو تاريخه القديم من الأسطورة، ينعكس ذلك لديه سلباً على النواحي الأدبية والفكرية والفلسفية لأن الأسطورة هي حجر الأثاث للمراحل اللاحقة في عملية التطور العقلي. والتي ميزت بين الإنسان وبقية الكائنات الأخرى ومهدت السبيل أمام الرفقة الفكرية الإنسانية العاقلة.وبما أن الأسطورة الأولى وباعتراف كل الباحثين وعلى رأسهم فراس السواح وجدت في بلاد سومر (كردسـتان) فإن السومريين يمثلون إنسان حلقة الوصل ما بين الإنسان الوحشي البدائي والإنسان التاريخي. فلقد أصّل السومريون للإنسان المدني الاجتماعي التاريخي. وبما أن الأسطورة لم تعط إجابات كلية ومقنعة عن تلك الأسئلة التاريخية لبشر ذلك الوقت. ولم تشف غليل الناس آنذاك. وبمرور الزمن مهدت الأرضية لمرحلة لاحقة لها. فولد الشعر (الخيال) في رحم العصر الأسطوري، وأصبح الإنسان الشاعر يعتمد على خياله في تفسير الأمور التي تهمه والتي تحيط به والإجابة عن تلك الأسئلة بشكل مهذب بعض الشيء عن المرحلة السابقة. فأصبح الإنسان يعيش في مرحلة متقدمة أكثر عن العصر الأسطوري. وقد أصابه تطور ملحوظ في فكره وأصبحت الصور أجمل في ذاكرته ومترابطة أكثر من السابق.وبتقادم الزمن طرأ على العقل البشري تطور آخر فأوجد الإنسان الفلسفة والتي يعرفونها بأنها حب المعرفة، وهي مرحلة متقدمة كثيراً عن مرحلتي الأسطورة والشعر. فكانت مواضيع الفلسفة مستمدة من العصور السابقة عليها في البداية وهي الإجابة عن تلكم الأسئلة التاريخية. ففندت بعض أجوبتها وأبقت على بعضها الآخر. وهذا يتوقف على نوعية المدارس الفلسفية وموقعها في النظر إلى تلك الأمور. ولأن الإنسان الفيلسوف بدأ يخضع كل سؤال من تلك الأسئلة السابقة وكل ظاهرة تحيط به وتشغل باله إلى منطق فلسفي أكثر جدية من السابق. واستنفر لذلك كل طاقاته الذهنية وكأني بالعقل قد ارتقى أكثر عن المراحل السابقة. ووجدت مدارس فلسفية شتى، واتسع مجالها لتشمل كل مناحي الحياة بعد ذلك ليصل إلى دراسة ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) ودراسة كل القيم الإنسانية لاحقاً.وآخر المراحل في تطور العقل البشري هي مرحلة العلم التجريبي والذي تميز عن المراحل السابقة باعتماد التجربة والبرهان والنظريات العلمية والذي تميز باكتشافاته واختراعاته العلمية الهائلة. وحتى في هذه المرحلة لم تكن الإجابات عن تلك الأسئلة إجابات كلية أو على الأقل لقسم منها. وبقيت تلك الأسئلة بدون إجابات مثال (لماذا خلق الإنسان). إلا أن الشيء الملفت للنظر بأن المراحل السابقة على العلم التجريبي أي العصر الأسطوري والعصر الشعري والعصر الفلسفي قد حققوا لإنسانهم نوعاً من الطمأنينة والركون إلى الحقائق التي توصلوا إليها في ذلك الوقت. انسجاماً مع إجاباتهم عن تلك الأسئلة التاريخية وغيرها. والتي كانت تمثل عملية الإجابة عنها ثقافة النخبة لكل عصر من تلك العصور. وجدت الديانات والمذاهب الفكرية كحاجة موضوعية ـ نفسية ـ اقتصادية وأخيراً سياسية لتلك المجتمعات. فكانت الغاية في البداية من وجود الأديان لتحرير الإنسان من الخوف من المجهول ولإدخال الطمأنينة في قلوب الناس ولتنظيم حياتهم الدنيوية ولتكريس الإنسان لفعل الخير العام والخاص وتأمين السعادة لهم في حياتهم الأخروية الأبدية كما يعتقدون. وكان السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف هو اللجوء إلى المبالغة في العقوبة النفسية أخروياً وعقوبات مادية دنيوياً ومن ثم إغداق الوعود والإسراف في العطايا لمن اتبع خطاهم في الآخرة الحتمية. فألزموهم بطقوس طوطمية أو دينية كجزء عملي ملزم من تلك العقيدة. والالتزام الأخلاقي بتلك المبادئ ومن ثم تحولت هذه الأفكار فيما بعد إلى سلطة بعد توفر شروطها من وجود (المسؤول – القانون – الرعية – الهدف). هذه السلطة كان المجتمع آنذاك بحاجة موضوعية لها فتم تأسيس دول وتوسعت هذه الدول تحت شعارات مختلفة كهداية الآخرين (التبشير) أو محاربة الكفر (الجهاد) ... الخ.فكل دين كان يحمل طابع عصره بالإضافة إلى تأثيرات العصور السابقة عليه حيث أن العصور لم تبدأ في كل مكان ولدى كل شعب في وقت واحد. فكانت هناك تداخلات عصرية بين الشعوب. حيث نجد ديناً وجد في العصر الفلسفي ويحمل بصمات الأديان السابقة عليه. ومن هنا كان التأثير والتأثر بين الأديان. والآن لنتعرف على وجهة نظر المثيولوجيا الزارادشتية في موضوع صيرورة الإنسان مع العلم بأن هذا الدين وجد في العصر الأسطوري للشعوب الإيرانية.
جيومـارت3

إنهم يعتقدون بأن صيرورة الإنسان بدأت عندما خلق أهورا مزدا جيومارت. وهو يعتبر عندهم جد البشرية الأول وكمولود ينسبونه إلى أهورا مزدا كأب وإلى الأرض / ارميتي / كأم.إن أسطورة جيومارت هي ذات دلالة رفيعة لتحقيق عمل اللاهوتيين الزارادشتيين في إعادة شروحهم للميثولوجيا التقليدية للأديان التي كانت تسبقهم مثل الإيزيدية والزرفانية والبراهماتية. إنهم يصغون جيومارت من حيث الشكل بأنه إنسان عملاق وهو كائن بدئي وخنثى وله شكل دائري ويلمع كالشمس وعندما يتوفى تنبثق المعادن من جسد. ولكن إخضاعه للموت قيم بشكل مختلف. فليست كلية العالم تماماً هي التي خلقت من جسده. وإنما المعادن فقط. أو بعبارة أخرى الأجرام. وكما أن آدم في الأديان اللاحقة للزارادشتية قد منح صفات كونية وفضائل روحية بارزة في آن واحد. كذلك جيومارت قد رفع إلى مركز استثنائي في التاريخ المزدي المقدس. ويضيف جيومارت بالقرب من زارادشت وساوشيان.4إن جيومارت هو أول من يتلقى الكشف للديانة الجيدة / ديانة المزديسنا الزارادشتية / في اعتقادهم. وتعلق الثيولوجيا الزارادشتية بأن جيومارت وكأنه الإنسان الكامل – العادل بامتياز – وبما أنه عاش ثلاثون عاماً تحت ضغط أهريمن فيمكن له أن ينقل الكشف عن الديانة الجيدة / المزديسنا / إلى مشيا ومشيانه5 اللذين أوصلاه بدورهما إلى أبنائهما. فمن هما مشيا ومشيانه، وما هي ألية البشر عندهم؟بصدد ذلك يقولون: بأن جيومارت فيه مطهر بنور الشمس. ثلث منه يسقط على الأرض فينتج منه عشبة الراوند المقدسة لدى الزارادشتيين ومن هذه العشبة يتولد أول زوج بشري وهما مشيا ومشيانه. فالحياة عندهم في شكلها الأول نباتي وهذا مبدأ أسطوري متنشر في أنحاء عديدة من العالم. لقد أمر الإله أهورا مزدا مشيا ومشيانه بفعل الخير وعدم عبادة أهريمن أو الخضوع له وبالامتناع عن الطعام. وفي الواقع فإن مشيا ومشيانه قد أعلنا أهورا مزدا كخالق ولكنهما خضعا لأغواء أهريمن وصرحا بأنه أي (أهريمن) خالق الأرض والماء والنبات. وبسبب هذا الكذب أدين الزوجان وبقيت روحهما في الجحيم حتى البعث. ففي البداية عاشا لمدة ثلاثين يوماً بدون طعام ولم يكن الزوجان البشريان في البداية بحاجة للطعام وفي نهاية الزمن سيقلع البشر عن عادة الأكل حسب التفكير الزارادشتي. ولكنهما بعد ثلاثين يوماً رضعا لبن معزاة وتظاهرا بعدم الرضى وكانت تلك كذبة ثانية. لعبت دوراً في تقوية أهريمن. ويمكن تفسير هذا المشهد الأسطوري بطريقتين توضحان: 1) إثم الكذب و 2) إثم الأكل أي إقامة الشرط البشري.وخلال خمسين عاماً لم يكن لمشيا ومشيانه أي رغبة جنسية ولكنهما تزوجا وولد لهما توأمان لطيفان ولكن الأم افترست واحداً والأب افترس الآخر عندئذ حرم أهورا مزدا أكل لحوم الأولاد لكي يبقي آباؤهم منذئذٍ على حياتهم. وفيما بعد حصل مشيا ومشيانه على أزواج أخرى من التوائم والتي أصبحت أجداد كل الأعراق البشرية. إن الزارادشتية تعتقد بأن الإنسان كان تماماً مثل جيومارت طيباً وموهوباً بروح وجسد. وإن الموت أدخل إلى العالم المادي من قبل أهريمن على أثر خطيئة الأجداد / مشيا ومشيانه/ نتيجة المعصية.. وفي الفكر المزدي يعتقدون بأن الجسد لم يصنع من الظلمات وإنما من مادة الروح ذاتها. وفي الأصل كان الجسد وضاءً ومعطراً ولكن الشيق جعله نتناً ومع ذلك وبعد الدنيوية الأخروية ستجد الروح جسداً مبعوثاًَ وماجداً.6الهوامـش والمراجـع:
1. قد يكون الاسم الكردي جومرد والذي يفيد معنى الجود والكرم مشتق من اسم جيومارت.2. ركش أو رخش يرد في الشاهنامه للفردوسي بأنه حصان رستم زال وهو الحصان الوحيد في العالم القادر على حمل رستم زال وكناية عن قوة هذا الحصان فإن الأسطورة تذكر في الشاهنامه بأن ركش كان يحارب الأسود الضارية عندما يكون رستم نائماً في غابة ريثما يفيق من نومه فيقدم على قتلهم جميعاً.3. إن أسطورة جيومارت وردت في الأفستا GAYAMARTAN وتعني حياة فانية.4. ساوشيان: وتعني المنقذ للبشرية. وقد أعلن زارادشت مراراً بأنه ساوشيان الذي سيولد من عذراء ستطفو في بحيرة كاسنويا وستحفظ موجات البحيرة في زارادشت. وإن التجديد النهائي للعالم سيحصل على أثر تضحية منجزة من ساوشيان.5. مشيا ومشيانه: وردت في الأفستا Martiye - Marata. 6. المعلومات عن جيومارت مأخوذة من كتاب الأستاذ نوري إسماعيل: " الديانة الزارادشتية – المزديسنا ".