Dienstag, August 28, 2007

جان جاك روسو

جان جاك روسو (1712 - 1778)
( سيرته ، العقد الاجتماعي )

ولد جان جاك روسو (Jean Jacques Rousseau
من عائلة فرنسية الأصل في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712. تميزت حياة روسو ومنذ ولادته بالشقاء والتشرد والتعاسة، فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين. وفي وصف شخصيته التعسة نراه يتذكر في كتاب "الاعترافات": "لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي، هذه الولادة التي كانت أول مصائبي".
لم يبلغ السادسة من عمره الا وكان أبوه يحمله على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية مثل خطاب عن التاريخ العام من تأليف بوسويه (Bossuet) ومحاورات الموتى لفونتينيل (Fontenelle) وبعض مؤلفات فولتير (Voltaire) وبلوتارك (Ploutarkhos).
بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة واعتدائه بالضرب على الغير واضطراره للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، بدأت حياة الشقاء والتشرد تلاحق روسو لتبني شخصيته المعقدة. فقد أدخل في مدرسة بقي فيها سنتين اضطر لتركها بعد ان أخضع ظلماً لعقاب صارم. وبعد المدرسة وضع ليتعلم على أيدي أحد النقاشين حرفة النقش ولكن ظلم معلمه وجوره اضطراه للهرب من جنيف ليقيم عند سيدة محسنة في مدينة آنسي الفرنسية، والتي بدورها دفعته للتخلي عن المذهب البروتستانتي واعتناق المذهب الكاثوليكي وهو في السادسة عشرة من عمره. وبعد ذلك وبسبب حاجته للمال أخذ روسو ينتقل من عمل لآخر دون ان يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار، فمن سكرتير عند سيدة عجوز وحاجب عند آخر إلى مؤلف ومدرس موسيقى ومن ثم إلى منصب سكرتير لسفير فرنسا في البندقية والذي سرعان ما قدم استقالته منه ليعود إلى باريس ليعمل سكرتيراً ومن ثم في التنقيح الموسيقي.
خلال إقامته في باريس وبعد ان وثق علاقته بنخبة المجتمع الباريسي اشترك روسو بمسابقة علمية أقامتها أكاديمية ديجو حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها. فما كان من مقالته التي اشترك فيها في المسابقة وهي "خطاب في العلوم والفنون" إلا ان نالت الجائزة لعام 1750 وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة علمية حول أصل التفاوت بين الناس، فوضع مقالة بعنوان "خطاب في التفاوت بين الناس" عام 1755. وفي عام 1756 بدأ إكمال مؤلفه هيلويز (Heloiise) وبدأ بكتابة مؤلفيه الشهيرين "العقد الاجتماعي" و "إميل" اللذين نشرهما عام 1762، ثم نشر قاموس الموسيقى في عام 1767. دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها. فما كان من مقالته التي اشترك فيها في المسابقة وهي "خطاب في العلوم والفنون" إلا ان نالت الجائزة لعام 1750 وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة علمية حول أصل التفاوت بين الناس، فوضع مقالة بعنوان "خطاب في التفاوت بين الناس" عام 1755. وفي عام 1756 بدأ إكمال مؤلفه هيلويز (Heloiise) وبدأ بكتابة مؤلفيه الشهيرين "العقد الاجتماعي" و "إميل" اللذين نشرهما عام 1762، ثم نشر قاموس الموسيقى في عام 1767.
بالرغم من ان مؤلفات روسو لاقت الشهرة الواسعة والإقبال الشديد على قراءتها عبر الأرجاء الأوروبية، فإن كتابيه "العقد الاجتماعي" و"إميل" قد جلبا له الانتقاد والسخط وغضب المؤمنين والملحدين، المسيحيين والفلاسفة. فقد حكم برلمان باريس، وبعد عشرين يوماً فقط، بحرق الكتابين وسجن مؤلفهما مما اضطره إلى الهرب إلى سويسرا والتي بدورها كانت قد أصدرت حكماً مماثلاً على الكتابين. فلجأ روسو إلى إنجلترا حيث تعرف هناك على دافيد هيوم ونزل ضيفاً عليه ولكنه ما لبث ان تخاصم مع هيوم وعاد إلى فرنسا ليعمل كناسخ نوتات حتى وفاته في عام 1778.


روسو: مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"
الكتاب الأول
الفصل الأول: موضوع هذا الكتاب الأول
ولد الإنسان حرا إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما الذي يمكنه ان يجعله شرعيا؟ أعتقد أنني أستطيع حل هذه المسألة.
ولو كنت لا أولي اعتباراً إلا للقوة لقلت: ما دام أي شعب يُكرَه على الطاعة وأنه يطيع، فانه يحسن صنعا، وما ان يستطيع خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فانه يحسن صنعا أكثر: إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به، أو أنه يكون موطد العزم على استردادها، أو أنه لم يكن ثمة من يستطيع ان ينتزعها منه. على النظام الاجتماعي حق مقدس، بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فان هذا الحق لا يصدر قط عن الطبيعة، انه إذن مبني على تعاقدات. إلا انني قبل الاستطراد بالبحث إلى ذلك يجب علي ان أثبت ما قدمت.
الفصل الثالث: في حق الأقوى
إن الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد ان لم يحول قوته إلى حق، والطاعة إلى واجب. وما كان حق الأقوى، وهو حق أُخذ على محمل السخرية في الظاهر وفي حقيقة الأمر، أُقر كمبدأ. ولكن أفلا ينبغي ان يفسر لنا أحدهم هذه الكلمة. ان القوة هي قدرة مادية لست أرى أية أخلاقية يمكن ان تنتج عن آثارها. فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة، إنه على الأكثر فعل يمليه الحرص. فبأي معنى يمكنه ان يكون واجبا؟
لنفترض لحظة وجود هذا الحق المزعوم. فانني أقول بأنه لا ينجم عن هذا الافتراض الا هراء لا يمكن تفسيره. إذ ما ان تكون القوة هي التي تصنع الحق حتى يتغير المعلول مع تغير العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها. وما ان نتمكن من خلع الطاعة بلا عقاب حتى يصبح في مكنتنا فعل ذلك شرعيا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية المرء ان يعمل بحيث يكون هو الأقوى. فما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يقسر المرء على الطاعة فانه لا يكون ملتزما بها. وهكذا نرى إذن ان كلمة حق هذه لا تضيف شيئا إلى القوة، فهي هنا لا تعني شيئا البتة.
أطيعوا السلطات. فإذا كان هذا يعني الخضوع للقوة يكن التعليم جيدا، إلا أنه لا حاجة له وجوابي أنه سوف لا تنتهك حرمته أبدا. وأنا أعترف بأن كل قوة تأتي من الله، لكن كل مرض يأتي منه كذلك. فهل يعني ذلك ان يكون ممنوعا اللجوء إلى الطبيب؟ لئن فاجأني قاطع طريق في ركن من غابة: فلا يجب إعطاؤه نقودي بالقوة فحسب، ولكن هل أكون مجبرا، بصراحة، عندما يمكنني إخفاؤها عنه، على تسليمها إليه؟ ذلك ان المسدس الذي يمسك به هو بالتالي قوة كذلك.
لنعترف إذن بأن القوة لا تصنع حقا وإننا لسنا ملزمين بالطاعة إلا للسلطات الشرعية. وهكذا نعود دائما إلى طرح سؤالي الأولي.
الفصل الرابع: في العبودية
حيث إنه ليس لإنسان سلطة طبيعية على أقرانه وان القوة لا تنتج أي حق، فإن الاتفاقات تبقى إذن هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر.
...
هكذا فان حق الاستعباد، من أية زاوية نظرنا إلى الأمور، حق باطل، ليس فحسب لأنه غير شرعي وإنما لأنه محال ولا يعني شيئا. ان هذين اللفظين: "استعباد" و "حق" لفظان متناقضان، أحدهما ينفي الآخر. وسواء أكان الأمر من إنسان لإنسان أم من فرد لشعب، فانه لمن البلاهة دائما ان نقول: "انني اعقد معك اتفاقا كله على حسابك وكله في صالحي وسأنفذه طالما يروق لي وانك ستنفذه طالما يروق لي".
الفصل الخامس: في أنه يجب الرجوع دائما إلى اتفاق أول
حتى لو أنني سلمت بكل ما فندته حتى الآن لما كان أنصار الحكم الاستبدادي في مركز أفضل. فسيكون ثمة فارق كبير دائما بين إخضاع جمهور غفير وإدارة مجتمع. ولئن أُخضع أشخاص مشتتون، تباعا لسيطرة فرد واحد، أيا كان عددهم فإنني لا أرى في ذلك قط إلا سيدا وعبيدا، لا أرى قط شعبا وزعيمه، انها جمهرة، إذا شئنا لا اتحاد. إذ ليس في ذلك لا خيرا عاما ولا هيئة سياسية. فهذا الرجل، حتى وإن استعبد نصف العالم لا يكون أبدا إلا فردا، ولا تكون مصلحته، المنفصلة عن مصلحة الآخرين إلا مصلحة خاصة على الدوام. وإذا حدث ان هلك هذا الرجل نفسه لظلت مملكته من بعده مبعثرة وبلا رابطة كما تسقط سنديانة كبيرة في كتلة من الرماد بعد ان تستهلكها النيران.
يقول غروتيوس: "قد يهب شعب نفسه إلى ملك". فالشعب يكون شعبا إذن في رأي غروتيوس قبل ان يهب نفسه إلى ملك. إلا ان هذه الهبة نفسها هي فعل مدني يستلزم مداولة عامة. فقبل ان نتناول إذن بالبحث الفعل الذي ينتخب به شعب ملكا له يكون من المستحسن ان نبحث بالفعل الذي يكون به الشعب شعبا. ذلك ان هذا الفعل، نظرا لأنه سابق بالضرورة للفعل الآخر، هو الأساس الحقيقي للمجتمع.
وبالفعل، إذا لم يكن هناك اتفاق سابق قط فأين يكون، ان لم يكن الانتخاب بالإجماع، الإلزام بالنسبة للعدد الصغير على الخضوع لاختيار العدد الأكبر، ومن أين مصدر الحق لمائة شخص يريدون سيدا، في التصويت نيابة عن عشرة لا يريدون سيدا قط؟ فهل يكون قانون أغلبية الأصوات هو نفسه إنشاء للتعاقد ويفترض الاجتماع مرة على الأقل؟

الفصل السادس: في الميثاق الاجتماعي
إنني أفترض ان الناس وقد وصلوا إلى ذلك الحد الذي تغلبت فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعة، بمقاومتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من اجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لم يعد في مكنة تلك الحالة البدائية ان تدوم، وكان الجنس البشري سيهلك لو لم يغير طريقة وجوده.
ولما كان البشر لا يستطيعون خلق قوى جديدة وإنما توحيد وتوجيه قواهم الموجودة فحسب، فانه لم يبق لديهم من وسيلة أخرى للبقاء إلا تشكيل جملة من القوى بالدمج، يمكنها التغلب على المقاومة وحشدها للعمل بدافع واحد وجعلها تتصرف بتناسق.
هذا المجموع من القوى لا يمكن ان ينشأ إلا بمؤازرة عديدين: ولكن بالنظر إلى ان الأدوات الأولى في المحافظة على بقاء كل إنسان هي قوته وحريته فكيف يقيدهما دون الإضرار بنفسه ودون التهاون في أمر العنايات الواجبة عليه نحو نفسه؟ هذه الصعوبة يمكن وضعها، في حدود اتصالها بموضوعي، في العبارات التالية:
"إيجاد شكل من الاتحاد يدافع ويحمي كل القوة المشتركة، شخصُ كل مشارك وأمواله، ومع ان كل فرد يتحد مع الجميع إلا أنه لا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا كما كان من قبل." هذه هي المشكلة الأساسية التي يقدم العقد الاجتماعي حلا لها.
ان شروط هذا العقد محددة بطبيعة الفعل إلى درجة ان أدنى تعديل يجعلها باطلة ولا أثر لها، بحيث انها، وان كانت ربما لم تذكر صراحة أبدا، تكون هي نفسها في كل مكان، وهي في كل مكان مقَرة ضمنا ومعترف بها، إلى ان يعود كل فرد، بعد ان تنتهك حرمة الميثاق الاجتماعي، إلى حقوقه الأولى عندئذ ويسترد حريته الطبيعية بفقده الحرية التعاقدية التي تخلى لأجلها عن حريته الأولى.
هذه الشروط يمكن اختصارها جميعها بالطبع في شرط واحد، ألا وهو التنازل الكامل من جانب كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها. إذ بما ان كل شخص، بدءا، قد قدم نفسه بأكملها، وان الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع، فلا مصلحة لأحد بأن يجعلها مكلفة للآخرين.
أما وقد تم التنازل بلا تحفظ فان الاتحاد فضلا عن ذلك، يكون أكمل ما يمكن ان يكون ولا يبقى لأحد شيء يطالب به. إذ لو بقيت للأفراد بعض الحقوق، ولعدم كون أي مرجع أعلى مشتركا يمكن الفصل بينهم وبين الجمهور، وبالنظر إلى ان كل واحد في أية نقطة سرعان ما قد يدعي أنه الحكم الخاص لنفسه في جميع المسائل، إذن لكانت حالة الطبيعة قد دامت ولأصبح الاتحاد بالضرورة استبداديا أو عقيما.
وأخيرا فان كل واحد إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد. ولما لم يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من أنفسنا، فإننا نكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة للمحافظة على ما لدينا.
إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره سنجد أنه يتقلص إلى العبارات التالية: "يسهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل."
...
الفصل السابع: في العاهل صاحب السيادة
يتضح لنا من صيغة هذا العقد الاتحادي أنها تنطوي على التزام متبادل من الشعب والأفراد، وان كل فرد، وكأنه يتعاقد مع نفسه إذا صح القول، يجد نفسه مرتبطا بالتزام مزدوج: وذلك كعضو لدى العاهل تجاه الأفراد وبوصفه عضوا في الدولة قبل العاهل. لكننا هنا لا نستطيع تطبيق القانون الأساسي في الحق المدني الذي لا يترتب بمقتضاه على أي كان الوفاء بالتزام التعاقد مع نفسه، ذلك ان ثمة فارق واضح بين ان يكون المرء ملزما نحو ذاته أو قبل مجموع، هو جزء منه.
ولا بد من الإشارة أيضا إلى ان المداولة العامة التي يكون في وسعها إلزام جميع الرعايا نحو صاحب السيادة، بسبب العلاقتين المختلفتين اللتين ينظر لكل فرد منهم من زاويتيهما، لا يمكنها، بالحجة المضادة، إلزام صاحب السيادة تجاه نفسه. وانه لما يترتب عليه، بالنتيجة، ان يكون فرض صاحب السيادة لقانون لا يستطيع خرقه، ضد طبيعة الهيئة السياسية. إذ لما كان لا يستطيع اعتبار نفسه إلا من وجهة واحدة فقط فانه عندئذ يكون في حالة فرد يتعاقد مع نفسه: من حيث نرى أنه لا يوجد ولا يمكن ان يوجد أي نوع من القانون الأساسي يعتبر ملزما لهيئة الشعب حتى ولا العقد الاجتماعي. وهذا لا يعني ان هذه الهيئة لا يكون في مقدورها تماما الالتزام تجاه الغير فيما لا ينقض هذا العقد قط، إذ أنه قبل الأجنبي يصبح كائنا بسيطا، فردا.
ولكن لما كانت الهيئة السياسية أو صاحب السيادة لا يستمد كيانه إلا من قدسية العقد فانه لا يمكنه إلزام نفسه، حتى قبل الغير، بشيء يخل بهذا العقد الأصلي، كأن يتنازل عن جزء من نفسه أو ان يخضع لصاحب سيادة آخر. ذلك ان انتهاكه لحرمة العقد الذي يوجد بمقتضاه يعني تدمير نفسه، ومن لا يكون شيئا لا ينتج شيئا.
وما دامت هذه الجماعة قد اتحدت على هذا النحو فإنه لا تمكن الإساءة إلى أحد أعضائها دون الهجوم على الهيئة، بل وأقل من هذا لا يمكن المساس بالهيئة دون ان يشعر جميع الأعضاء بذلك. وهكذا يلزم الواجب والمصلحة على حد سواء الطرفين المتعاقدين على تبادل المساعدة باتفاقهما، وينبغي على الناس أنفسهم السعي إلى توحيد جميع المزايا المتعلقة بهذه العلاقة المزدوجة.
وبالنظر إلى ان صاحب السيادة لا يتكون إلا من أفراد يؤلفونه، فليس له ولا يمكن ان تكون له مصلحة معاكسة لمصلحتهم، وبالتالي فان القوة صاحبة السيادة لا حاجة لها البتة إلى ضمان تجاه رعاياها، حيث أنه من المستحيل ان تبتغي الهيئة الإضرار بجميع أعضائها. وسنرى فيما بعد من هذا البحث أنها لا تستطيع الإضرار بأي واحد بمفرده. فصاحب السيادة بما هو كائن به وحده، يكون دائما كل ما يجب ان يكون.
لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالرعايا تجاه صاحب السيادة الذي ليس هناك ما يكفل الوفاء بالتزاماتهم قبله، على الرغم من المصلحة المشتركة، إذا لم يكن يجد وسائل لتأمين إخلاصهم.
وبالفعل يمكن ان تكون لكل فرد، كإنسان، إرادة خاصة مخالفة للإرادة العامة التي له كمواطن أو متناقضة معها. فمصلحته الخاصة يمكن ان تملي عليه من التصرف ما يخالف المصلحة المشتركة تمام المخالفة، ووجوده المطلق والمستقل بصورة طبيعية يمكن ان يسول له النظر إلى ما يجب ان يؤديه للقضية المشتركة على انه مساهمة بلا مقابل، يكون فقدانها أقل ضررا بالآخرين من كلفة الدفع بالنسبة له. وإذ ينظر إلى الشخص المعنوي الذي يكون الدولة ككائن عاقل لأنه ليس إنسانا، فانه قد يتمتع بحقوق المواطن دون الرغبة في القيام بواجبات كرعية، وهذا ظلم قد يسبب تزايده خراب الهيئة السياسية.
ولكي لا يصبح الميثاق الاجتماعي إذن صيغة باطلة، فإنه يشتمل، ضمنيا، على هذا الالتزام الذي يستطيع وحده إعطاء القوة للآخرين: ألا وهو ان كل من يرفض إطاعة الإرادة العامة سوف يرغم عليها من قبل الهيئة بأكملها. وهذا لا يعني شيئا آخر غير أنه يجبر على ان يكون حرا؛ حيث ان ذلك هو الشرط الذي، وهو يقوّم كل مواطن للوطن، يحميه من أي خضوع شخصي؛ هو الشرط الذي يصنع براعة ولعبة الآلة السياسية والتي وحدها تجعل الالتزامات المدنية شرعية، والتي بدورها قد تكون، لولا ذلك، محالا واستبدادية وعرضة لأعظم إساءات الاستعمال.
الفصل الثامن: في الحالة المدنية
هذا الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يُحدث في الإنسان تغييرا بارزا جدا باستبداله الغريزة في مسلكه بالعدالة، وبإضفائه على أفعاله الأخلاقية التي كانت تنقصها فيما مضى. فان الإنسان، الذي لم يكن حتى ذلك الحين يراعي إلا نفسه، قد وجد أنه، بعد ان خلف فيه صوت الواجب النزوة البدنية وحل الحق محل الجشع، مجبر على العمل بمبادئ أخرى وعلى ان يستهدي بعقله قبل الانصياع لنوازعه...
ان ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقا لا محدودا في كل ما يغريه وما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية كل ما هو في حيازته. وحتى لا نخطئ في هذه التعويضات يجب ان نميز الحرية الطبيعية التي ليس لها من حدود سوى قوى الفرد، عن الحرية المدنية التي تكون محدودة بالإرادة العامة، وأن نفرق بين الحيازة التي ليست سوى نتيجة للقوة أو حق المستولي الأول وبين الملكية التي لا يمكن ان تبنى إلا على سند إيجابي.
يمكننا ان نضيف إلى ما تقدم، على المكتسب في الحالة المدنية، الحرية المعنوية التي وحدها تجعل من الإنسان سيد نفسه حقيقة، إذ ان ثروة الشهوة وحدها هي عبودية وإطاعة القانون الذي نسنه لأنفسنا هي حرية. لكنني قد أفضت كثيرا في الكلام عن هذا الأمر مع ان المعنى الفلسفي لكلمة حرية ليس هنا مما يدخل في موضوعي.

الفصل التاسع: في الملكية الواقعية
كل عضو من المجتمع يهب نفسه له بمجرد ان يتشكل، بالحال التي يوجد عليها عندئذ، هو وجميع قواه التي تعتبر الأموال التي في حيازته جزءاً منها. ولا ينبغي بمقتضى هذا التصرف ان تتغير طبيعة الحيازة بتغير المالكين وتصبح ملكية من ممتلكات صاحب السيادة. ولكن، لما كانت قوى المدينة السياسية مما لا يقارن من حيث العظم بقوى الفرد فان الحيازة العامة تكون كذلك في الواقع، أقوى وأكثر أحكاماً، دون ان تكون أكثر شرعية، على الأقل بالنسبة للأجانب. إذ ان الدولة، في مواجهة أعضائها، هي سيدة جميع ممتلكاتهم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي يستخدم أساساً لجميع الحقوق، إلا أنها ليست كذلك في مواجهة الدول الأخرى إلا بمقتضى حق المحتل الأول الذي يعود إليها من الأفراد.
ان حق الاستيلاء الأول، وإن كان أكثر واقعية من حق الأقوى، لا يصير حقاً حقيقياً إلا بعد تقرير حق الملكية. ولكل إنسان بصورة طبيعية حق بكل ما يكون ضرورياً له؛ لكن العقد الإيجابي الذي يجعله مالكاً لشيء ما، يستبعده من كل الباقي. إذا ما دام قد حدد نصيبه فيجب ان يقتصر عليه ولا يبقى له حق قبل المجتمع. هذا هو السبب الذي يجعل حق الاستيلاء الأول، رغم ضعفه الشديد في حالة الطبيعة، موضع احترام كل إنسان مدني. وبمقتضى هذا الحق يحترم المرء ما يكون للغير أقل من احترامه لما له.
وعلى وجه العموم، لجواز حق الأسبقية في الاستيلاء على قطعة أرض، يجب ان تتوفر الشروط التالية: أولاً ان تكون هذه الأرض مما لم يشغلها إنسان بعد؛ وان لا يشغل منها المستولي، بالدرجة الثانية، إلا الجزء الذي يكون بحاجة إليه لبقائه، ثالثاً وأن لا تدخل في حيازته، بالشكليات الجوفاء، وإنما بالعمل فيها وبالزراعة، الدلالة الوحيدة على الملكية التي يجب على الغير احترامها بدلاً من السندات القانونية.
ألا نكون، بالفعل، ونحن نقصر حق الأسبقية في الاستيلاء على الحاجة والعمل، قد وسعناه إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه؟ هل يمكننا ان نضع حدوداً لهذا الحق؟ أيكفي ان يضع المرء قدمه في قطعة من الأرض مشتركة ليزعم انه صاحبها في الحال؟ وهل يكفي ان تكون له القوى في إبعاد الآخرين عنها فترة ما لينتزع منهم الحق في ان لا يعودوا إليها أبداً؟ فكيف يستطيع إنسان أو شعب، الاستيلاء على مساحة شاسعة من الأرض ويحرم منها الجنس البشري كله، ان لم يكن بالاغتصاب المعاقب عليه، بما ان هذا الاغتصاب ينزع من سائر البشر السكن والغذاء اللذين منحتهما لهم الطبيعة مشتركين؟ فهل كان عمل نونيز بالباو (Nunez Balbao) وهو يستولي على الساحل، ويعلن باسم تاج قشتالة حيازته على بحر الجنوب وعلى أمريكا الجنوبية كلها، كافياً لينزع ملكيتها من جميع السكان وليبتعد عنها جميع أمراء الأرض؟ لقد كانت هذه الشكليات تتضاعف، على هذا المستوى بما يكفي من عدم الجدوى، ولم يكن للملك الكاثوليكي إلا ان يعلن حيازته، من مقره، للعالم كله؛ مع الاستثناء بعدئذ لما كان مملوكاً من قبل الأمراء الآخرين فيما مضى.
نستطيع ان نتصور كيف أصبحت أراضي الأفراد وقد جمعت وباتت متجاورة، إقليماً عاماً، وكيف صار حق السيادة وقد امتد من الرعايا إلى الأرض التي يشغلونها، حقاً عينياً وشخصياً في ان واحد؛ وهو ما يضع المالكين في حالة من التبعية أكبر ويصنع من قواهم نفسها الضمانات لإخلاصهم. وهي ميزة لا يبدو ان الملوك القدامى قد فطنوا لها، إذ كانوا، وقد سموا أنفسهم ملوكاً للفرس والسكيتين والمقدونيين، ينظرون إلى أنفسهم كزعماء للناس أكثر من أنهم سادة على البلاد. أما ملوك اليوم فانهم يسمون أنفسهم ببراعة أكثر ملوك فرنسا وأسبانيا وإنجلترا، الخ.. وهكذا فانهم بامتلاكهم الأرض يكونون أكثر اطمئناناً للإمساك بالسكان.
والفريد في أمر هذا التنازل هو ان المجتمع، بدلاً من قبوله بممتلكات الأفراد يجردهم منها، لا يفعل إلا ان يؤمن لهم حيازتها الشرعية إذ يبدل الاغتصاب بحق حقيقي والانتفاع بالملكية. عندئذ بالنظر إلى اعتبار الحائزين مؤتمنين على الثروة العامة، وبالنظر إلى ان حقوقهم تكون محترمة من جميع أعضاء الدولة ومصانة من جميع قواها ضد الأجنبي، وبتنازل مفيد للشعب بل وأكثر من ذلك أيضاً لأنفسهم، يكونون قد اكتسبوا تقريباً، كل ما أعطوه.
وهو تناقض يفسر بسهولة بالتفريق بين ما يملكه صاحب السيادة والمالك من حقوق، على نفس العين، كما سنرى فيما بعد.
قد يحدث كذلك ان يبدأ الناس بالاتحاد قبل حيازتهم لأي شيء، وانهم حين يستولون بعد ذلك، على أرض تكفيهم جميعاً، ينتفعون بها بصورة مشتركة أو يقتسمونها فيما بينهم، إما بالتساوي أو وفقاً لنسب يحددها صاحب السيادة. وأياً ما كانت الطريقة التي يتم بها هذا الاكتساب، فان الحق الذي يكون لكل فرد على العين الخاصة به، يكون دائماً تابعاً للحق الذي للمجتمع على جميع الأرض. وبغير ذلك لا يكون هناك رسوخ في الرابطة الاجتماعية ولا قوة واقعية في ممارسة السيادة.
سأنهي هذا الفصل وهذا الكتاب بملاحظة يجب ان تفيد أساساً للنظام الاجتماعي كله؛ ذلك ان الميثاق الأساسي، بدلاً من هدم المساواة الطبيعية، يقيم مكانها، على العكس، مساواة معنوية، وأن البشر إذ يمكنهم ان يكونوا غير متساوين في القوة أو في العبقرية يصبحون جميعاً متساوين بالتعاقد وبالحق.

الكتاب الثاني
الفصل الأول: في ان السيادة غير قابلة للتنازل
إن أول وأهم نتيجة للمبادئ المقررة آنفا هي ان الإرادة العامة تستطيع وحدها توجيه قوى الدولة وفق غاية إنشائها وهي الخير المشترك: لأنه إذا كان تعارض المصالح الفردية قد جعل من الضروري إنشاء المجتمعات فإن اتفاق هذه المصالح نفسها هو الذي جعلها ممكنة. إذ ان ما في هذه المصالح المختلفة من عنصر مشترك هو الذي شكل الرابطة الاجتماعية ولو لم يكن هناك بعض النقاط التي تتفق عليها جميع المصالح لما أمكن وجود أي مجتمع. فعلى أساس هذه المصلحة المشتركة وحدها إذن يجب ان يحكم المجتمع.
وبناء عليه أقول: بالنظر إلى ان السيادة ليست سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها لا تستطيع أبدا التنازل عن ذاتها، وأن صاحب السيادة، الذي ليس سوى كائن جماعي، لا يمكن ان يكون ممثلا إلا بنفسه. ان السلطة يمكن ان تُنقل، أما الإرادة فلا.
بالفعل، إذا لم يكن من المتعذر ان تتفق إرادة خاصة مع الإرادة العامة على نقطة ما فمن المستحيل على الأقل ان يكون هذا الاتفاق دائما وثابتا، إذ ان الإرادة الخاصة تجنح بطبيعتها إلى الإيثار بينما تجنح الإرادة العامة إلى المساواة. وإنه لأكثر استحالة أيضا ان يكون لدينا ضمان لهذا الاتفاق مع أنه لا بد من وجوده دائما، فقد لا يكون نتيجة للمهارة وإنما للصدفة. ولعل صاحب السيادة يقول: أريد حالياً ما يريده فلان من الناس أو على الأقل ما يقول انه يريد، لكنه لا يستطيع القول: ما سيريده هذا الإنسان غدا سوف أريده أنا أيضا، بحيث أنه من السخف ان تقيد الإرادة نفسها بالمستقبل، وبما أنه ليس من شأن أي إرادة ان ترضى بشيء يعاكس صالح الكائن الذي يريد. إذا وعد الشعب إذن، ببساطة، ان يطيع، فإنه ينحل بمقتضى هذا العقد، ويفقد صفته كشعب. وفي اللحظة التي يوجد فيها سيدا لا يبقى هناك صاحب سيادة ومنذئذ تكون الهيئة السياسية قد انهارت.
لا يعني هذا قط ان أوامر الرؤساء لا يمكن اعتبارها إرادات عامة، طالما يكون صاحب السيادة حرا في معارضتها ولا يعارضها. ففي مثل هذه الحالة يجب ان نخمن من السكوت العام بأن الشعب راض. وسوف يتضح هذا الأمر أكثر على مدى البحث.

الفصل الثاني: في ان السيادة لا تتجزأ
إن السيادة لا تتجزأ لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل. إذ ان الإرادة تكون عامة، أو أنها لا تكون كذلك، فهي إرادة هيئة الشعب كله أو إرادة جزء منه فحسب. وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عملا من أعمال السيادة وتكون قانونا. أما في الثانية فليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال القضاء، انها مرسوم على أكثر تقدير.
لكن سياسيينا إذ لم يستطيعوا تجزئة السيادة في مبدئها، جزءوها في موضوعها، فهم يقسمونها إلى قوة وإلى إرادة، إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية، إلى حقوق فرض ضرائب وإقامة عدالة وإعلان حرب وإلى إدارة داخلية وسلطة في التعامل مع الأجنبي: تارة يخلطون هذه الأجزاء جميعها وتارة يفصلون بينها، يجعلون من صاحب السيادة كائنا وهميا ومكونا من قطع مجلوبة، ذلك كأنهم كانوا يؤلفون الإنسان من أجساد عديدة يكون لأحدهما عينان وللآخر ذراعان ولغيرهما رجلان ولا شيء أكثر من ذلك. فإن مشعوذي اليابان، على ما يقال، يقطعون الولد أمام أعين النظارة إربا، ويقذفونها في الهواء ويعملون على سقوط الولد إلى الأرض حيا وقد ردت جميع أعضائه إليه. وهذا ما تفعله حيل سياسيينا تقريبا، فبعد ان يقطعوا أوصال الهيئة الاجتماعية بسحر يليق بالسوق يجمعون الأجزاء بطريقة لا يعلمها أحد.
يرجع هذا الخطأ إلى عدم تكوين أفكار مضبوطة عن السلطة السيادية وإلى اعتبار أجزاء من هذه السلطة ما لم يكن إلا تعبيرا عنها. وهكذا مثلا قد نظر إلى عمل إعلان الحرب وإلى عقد السلم كأنهما من أعمال السيادة، وهما ليسا كذلك، بما ان كلا من هذين العملين ليس قانونا قط، لكنه تطبيق للقانون فحسب، تصرف فردي يحدد حالة القانون، كما سنرى ذلك بوضوح عندما نحدد الفكرة المتصلة بلفظ قانون.
وإذا ما تتبعنا على نفس المنوال التقسيمات الأخرى سنجد أننا نخطئ في كل مرة نظن فيها بأن السيادة مجزأة، وأن الحقوق التي تؤخذ على أنها أجزاء من هذه السيادة تكون جميعها تابعة لها ويفترض فيها دائما إرادات سامية ليست هذه الحقوق إلا تنفيذا لها.
...
الفصل الثالث: إذا كانت الإرادة العامة يمكن ان تخطئ
ينتج مما تقدم ان الإرادة العامة تكون دائما عادلة وتميل دائما إلى النفع العام: ولكن لا ينجم عن ذلك ان تتسم مداولات الشعب دائما بنفس السداد. يراد دائما له الخير، لكن هذا الخير لا يرى دائما. ان الشعب لا يفسد أبدا، لكنه كثيرا ما يخدع، وعندئذ يبدو انه أراد ما هو شر.
كثيرا ما يكون هناك من الفارق بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فهذه لا تراعي سوى المصلحة المشتركة، أما الأخرى فتراعي المصلحة الخاصة وليست سوى مجموع الإرادات الخاصة: ولكن جردوا هذه الإرادات نفسها من الزيادات ومن النقصان التي يهدم بعضها بعضا تبقى لدينا كحاصل للخلافات الإرادة العامة.
إذا لم تكن للمواطنين، عندما يتداول الشعب وهو على دراية كافية، أية وسيلة للاتصال فيما بينهم فإن الإرادة العامة قد تنتج دائما عن العدد الكبير من الفوارق الصغيرة وتكون المداولة دائما حسنة. ولكن عندما تحدث تحايلات واتحادات جزئية على حساب الاتحاد الكبير، تصبح إرادة كل اتحاد من تلك الاتحادات عامة بالنسبة لأعضائه وخاصة بالنسبة للدولة، ويمكن القول عندئذ انه لم يبق هناك من المقترعين بقدر ما هناك من الناس، بل بقدر ما هناك من الاتحادات فحسب. عندئذ يصبح عدد الفوارق أقل وتعطي هذه الفوارق نتيجة أقل عمومية. وأخيرا عندما يغدو أحد هذه الاتحادات على جانب من الضخامة بحيث يتغلب على جميع الاتحادات الأخرى، فان النتيجة لا تكون حاصل الخلافات الصغيرة وإنما نتيجة خلاف وحيد، عندئذ لا تبقى هناك إرادة عامة، ولا يكون الرأي الذي يتغلب عليها سوى رأي خاص.
المهم إذن للحصول على التعبير عن الإرادة العامة ان لا يكون هناك جماعة جزئية في الدولة وأن لا يبدي كل مواطن رأيه إلا تعبيرا عنه نفسه. فهذا ما كانت عليه المؤسسة الوحيدة والرفيعة التي أقامها ليكورغوس العظيم. ولئن وجدت الجماعات الجزئية فيجب الإكثار من عددها وتلافي التفاوت فيما بينها كما فعل سولون ونيوما وسرفيوس. ان هذه الاحتياطات تكون وحدها الجيدة لجعل الإرادة العامة متنورة دائما ولكي لا يخطئ الشعب أبدا.

الفصل الرابع : في حدود السلطة السيادية
إذا كانت الدولة أو المدينة السياسية ليست سوى شخص معنوي تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وإذا كان أهم غاياتها هي صيانة بقائها الخاص، فلا بد لها من قوة إكراه شاملة من أجل تحريك وتهيئة كل جزء على النحو الملائم للكل. وكما تمنح الطبيعة كل إنسان سلطة مطلقة على جميع أعضائه فان الميثاق الاجتماعي يمنح الهيئة السياسية سلطة تحمل، إذ توجهها الإرادة العامة، اسم السيادة كما قلت من قبل.
لكن علينا فضلا عن الشخص العام ان ننظر في الأشخاص الخاصين الذين يتكون منهم هذا الشخص العام، والذين تكون حياتهم وحريتهم مستقلة عنه بصورة طبيعية. فالمقصود إذن ان نحسن التمييز بين حقوق كل من المواطنين وصاحب السيادة وبين الواجبات التي يجب ان يؤديها أولئك المواطنون بوصفهم رعايا والحق الطبيعي الذي يجب ان يتمتعوا به باعتبارهم بشرا.
ومن المسلم به ان كل ما يتنازل عنه كل فرد، بالميثاق الاجتماعي، من سلطته وممتلكاته وحريته، هو الجزء من كل ذلك فحسب الذي يقتضيه انتفاع المجتمع، ولكن يجب التسليم كذلك بأن صاحب السيادة وحده هو الذي يفصل في تلك الأهمية.
أن جميع الخدمات التي يستطيع أحد المواطنين تأديتها للدولة، عليه ان يؤديها لصاحب السيادة حالما يطلبها منه، لكن صاحب السيادة من جهته لا يستطيع تكبيل رعاياه بأي قيد غير مفيد للمجتمع، بل ليس في وسعه ان يريد ذلك: إذ لا يجري أي شيء في شريعة العقل بلا سبب ولا كذلك في ظل قانون الطبيعة.
فالالتزامات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية ليست إجبارية إلا لأنها متبادلة ومن طبيعتها أننا ونحن نؤديها لا يمكننا العمل من اجل الغير دون العمل كذلك من أجل أنفسنا. فلماذا تكون الإرادة العامة دائما عادلة ولماذا يريد الجميع على الدوام السعادة لكل واحد منهم ان لم يكن ذلك لأنه ليس هناك من شخص لا يحتاز على هذه الكلمة "كل واحد" ولا يفكر بنفسه وهو يقترع من أجل الجميع؟ وهذا ما يقيم الدليل على ان المساواة في الحق ومعنى العدالة الذي ينجم عنها، يشتقان من الأفضلية التي يعطيها كل واحد لنفسه وبالتالي من طبيعة الإنسان، وان الإرادة العامة من أجل ان تكون حقيقية يجب ان تكون كذلك في هدفها مثلما تكون في جوهرها، وانها يجب ان تنطلق من الجميع لكي تطبق على الجميع، وانها تفقد سدادها الطبيعي عندما تجنح إلى أي هدف فردي ومحدد، لأنه لا يكون لنا عندئذ، إذ نفضل فيما يكون غريبا عنا، أي مبدأ حقيقي يرشدنا من مبادئ العدالة.
بالفعل، ما ان يكون المقصود فعلا أو حقا فرديا، في نقطة لم تكن قد سويت باتفاق عام وسابق، حتى تصبح المسألة موضع تنازع. انها قضية يكون فيها الأفراد المعنيون طرفا ويكون الجمهور طرفا آخر، لكنني لا أرى فيها لا القانون الواجب إتباعه ولا القاضي الذي يجب ان يفصل فيها. وقد يكون من السخف ان نبتغي عندئذ الاستناد في ذلك إلى قرار صريح للإرادة العامة التي لا يمكن ان تكون سوى رأي أحد الطرفين، والذي لا يكون بالتالي، بالنسبة للطرف الآخر إلا إرادة أجنبية، خاصة، جانحة في هذه المناسبة إلى الظلم وعرضة للخطأ. وعليه فكما ان إرادة خاصة لا يمكن ان تمثل الإرادة العامة، تتغير طبيعتها عندما تطبق على موضوع خاص، ولا يمكنها كإرادة عامة ان تحكم لا على إنسان بمفرده ولا على واقعه. فعندما كان شعب أثينا، مثلا يسمي أو يعزل قادته، يمنح الواحد أكاليل المجد، ويوقع بالآخر ألوان العقاب... وبعديد من المراسيم الخاصة يمارس بلا تمييز جميع أعمال الحكم، فإن الشعب عندئذ لم تعد له إرادة عامة بمعنى الكلمة، إذ لم يعد يتصرف كسيد وإنما كقاضي. ولسوف يبدو هذا مناقضا للأفكار المألوفة ولكن يجب ان يترك لي المجال لعرض أفكاري.
يجب ان نتبين من ذلك ان ما يجعل الإرادة عامة، ليس عدد الأصوات بقدر ما هي المصلحة المشتركة التي توحدها، إذ ان كل واحد في هذه المؤسسة يخضع نفسه بالضرورة للشروط التي يفرضها على الآخرين، ومن هنا هذا الاتفاق الرائع بين المصلحة والعدالة الذي يضفي على المداولات المشتركة طابع الإنصاف الذي نراه يتلاشى في مناقشة كل مسألة خاصة، خالية من مصلحة مشتركة توحد وتماثل قانون القاضي مع شريعة الوطن.
وأيا ما كانت الجهة التي نرجع منها إلى الأصل فإننا نصل دائما إلى نفس النتيجة، وهي ان الميثاق الاجتماعي يقر بين المواطنين نوعا من المساواة بحيث يلتزمون جميعا بنفس الشروط، ويجب ان يتمتعوا جميعا بنفس الحقوق. وهكذا فان كل عمل من أعمال السيادة أي كل عمل صحيح من أعمال الإرادة العامة يوجب على جميع المواطنين أو يساعدهم كذلك، بطبيعة الميثاق، بحيث ان صاحب السيادة يعرف فحسب هيئة الأمة ولا يميز واحدا من أولئك الذين كونوها. فما هو إذن العمل السيادي بمعناه الحقيقي؟ انه ليس اتفاقا بين رئيس ومرؤوس وإنما اتفاق الهيئة السياسية مع كل واحد من أعضائها: وهو اتفاق شرعي لأن أساسه العقد الاجتماعي، وهو عادل لأنه مشترك بين الجميع. مفيد لأنه لا يمكن ان يكون له من هدف إلا الخير العام. وهو راسخ الأركان لأن القوة العامة والسلطة العليا تضمنانه. وبقدر ما يكون الرعايا غير خاضعين إلا لمثل هذه الاتفاقات فانهم لا يمتثلون لأمر شخص وإنما لإرادتهم الخاصة فحسب، والسؤال: إلى أي مدى تمتد حقوق كل من صاحب السيادة والمواطنين: هو السؤال إلى أي حد يكون في وسع هؤلاء المواطنين ان يلتزموا مع أنفسهم، كل واحد تجاه الجميع والجميع تجاه كل واحد منهم.
نتبين من ذلك ان السلطة السيادية مهما كانت مطلقة، مقدسة، لا يمكن المساس بها أبدا، لا تتجاوز ولا يمكن ان تتجاوز حدود الاتفاقات العامة، وان كل إنسان يستطيع التصرف تمام التصرف بما تتركه له هذه الاتفاقات من أمواله ومن حريته بحيث لا يحق لصاحب السيادة أبدا تكليف أحد الرعايا أكثر من آخر، لأن المسألة إذ تصبح عندئذ خاصة لا تعود من اختصاص سلطته.
انه لخطأ فادح، إذا ما أقرت هذه الفروقات، ان يقال بوجود أي تنازل حقيقي من جانب الأفراد في العقد الاجتماعي، وان وضعهم، بفعل هذا العقد، يصبح أفضل حقيقة مما كان عليه من قبل، وانهم بدلا من ان يتنازلوا يقومون بمبادلة مفيدة إذ يستبدلون وجودا قلقا وغير مستقر بوجود أفضل وأكثر أمنا ويحصلون على الحرية بدلا عن استقلالهم الطبيعي وعلى أمنهم الخاص بدلا من قدرة الإضرار بالغير، وعلى حق يجعله الاتحاد الاجتماعي لا يقهر بدلا من قوتهم التي كان في وسع آخرين التغلب عليها...
الفصل السادس: في القانون
لقد منحنا بالميثاق الاجتماعي للهيئة السياسية كيانها وحياتها. والمقصود الآن ان نعطيها الحركة والإرادة بالتشريع. وذلك ان العمل الأصلي الذي تشكلت بمقتضاه هذه الهيئة واتحدت لم يحدد بعد شيئا مما يجب عليها عمله من أجل بقائها.
ان ما يكون حسنا للنظام ويلائمه يكون كذلك بطبيعة الأشياء وبصورة مستقلة عن الاتفاقات البشرية. حقا ان كل عدالة تأتي من الله، وهو وحده منبعها، لكننا لو كنا نعرف ان نتلقاها من الخالق لما كانت بنا حاجة لا لحكومة ولا لقوانين. فلا ريب في ان هناك عدالة شاملة منبثقة من العقل وحده، إلا ان هذه العدالة يجب ان تكون متبادلة لإقرارها بيننا. فإذا نظرنا بشريا إلى الأشياء فان قوانين العدالة، في حالة انعدام الجزاء الطبيعي تكون باطلة بين البشر، فهي لا تصنع الا الخير للشرير والشر للعادل عندما يراعيها هذا العادل تجاه جميع الناس ولا يتقيد بها أحد تجاهه. لا بد إذن من اتفاقات ومن قوانين لربط الحقوق بالواجبات ورد العدالة للانطباق مع هدفها. ففي حالة الطبيعة، حيث يكون كل شيء مشتركا لا أكون مدينا بشيء لأولئك الذين لم أتعهد لهم بشيء ولا أعترف بما يكون للغير إلا بما يعود علي بالنفع. لكن الأمر ليس كذلك في الحالة المدنية حيث تكون جميع الحقوق محددة بالقانون.
ولكن ما هو القانون إذن في النهاية؟ طالما أننا سنكتفي بأن لا نضفي على هذه الكلمة إلى المعاني الميتافيزيقية فسنستمر في المحاججة دون تفاهم، وعندما نكون قد حددنا ما هي ماهية قانون الطبيعة لا نكون قد حصلنا على فهم أفضل لماهية قانون الدولة.
لقد سبق لي ان قلت انه ليس هناك إرادة عامة في موضوع خاص. والواقع ان هذا الموضع الخاص يكون في الدولة أو خارج الدولة. فإذا كان خارج الدولة، فإن الإرادة التي تكون أجنبية عنه لا تكون عامة قط بالنسبة له. وإذا كان هذا الموضوع في الدولة فانه يشكل جزءا منها. عندئذ يتكون بين الكل وجزئه علاقة تجعل منهما كائنين منفصلين، يكون الجزء أحد الطرفين، والكل ناقصا هذا الجزء نفسه هو الطرف الآخر. لكن الكل ناقصا جزءا ليس الكل قط، وما دامت هذه العلاقة تبقى قائمة لا يعود ثمة من كل وإنما جزءان غير متساويين، وينتج عن ذلك ان إرادة أحد الطرفين لا تكون عامة كذلك قط بالنسبة للطرف الآخر.
أما عندما يضع كل الشعب قواعد لكل الشعب فانه لا ينظر إلا إلى نفسه، وإذا ما كون لنفسه عندئذ علاقة فإنها تكون علاقة الموضوع بأكمله من وجهة نظر إلى الموضوع بأكمله من وجهة نظر أخرى دون أية تجزئة الكل. حينئذ تكون المادة التي توضع لها القواعد عامة كالإرادة التي تسن القواعد. ان هذا العمل هو الذي أدعوه قانونا.
عندما أقول ان هدف القوانين يكون عاما دائما فإنني أعني ان القانون ينظر إلى الرعايا كهيئة وإلى الأفعال على أنها مجردة ولا ينظر أبدا إلى إنسان بوصفه فردا ولا إلى عمل خاص. هكذا فالقانون هو: يستطيع القانون ان يقرر وجود امتيازات لكنه لا يستطيع منحها بالاسم إلى شخص. وفي وسع القانون ان ينشئ طبقات عديدة بين المواطنين، بل ويحدد الصفات التي تخول الأفراد الانتماء لهذه الطبقات- لكنه لا يستطيع تسمية هذا أو ذاك للدخول فيها، ويمكنه إقامة حكومة ملكية وراثية لكنه لا يستطيع انتخاب ملك ولا تسمية أسرة ملكية، وبكلمة ان كل وظيفة تتعلق بغرض فردي ليست من شأن السلطة التشريعية قط.
يتضح لنا في الحال، على ضوء هذه الفكرة، أنه لم يعد من الواجب ان نسأل عمن يحق له سن القوانين ما دام انها أفعال صادرة عن الإرادة العامة، ولا إذا كان الأمير فوق القوانين ما دام أنه عضو من الدولة، ولا عما إذا كان في وسع القانون ان يكون ظالما ما دام أنه ما من إنسان يكون ظالما لنفسه، ولا كيف نكون أحرارا وخاضعين للقوانين ما دام أنها ليست سوى سجلات لإرادتنا.
كذلك يتضح أنه لما كان القانون يجمع عمومية الإرادة وعمومية الموضوع فإن ما يأمر به إنسان من تلقاء نفسه، أيا كان، لا يكون قانونا قط، فحتى ما يأمر به صاحب السيادة في موضوع خاص ليس كذلك قانونا وإنما يكون مرسوما، ولا هو عمل من أعمال السيادة بل عمل من أعمال القضاء.
إنني اسمي إذن جمهورية كل دولة تحكمها القوانين، أيا كان شكل الإدارة فيها. لأنه عندئذ فحسب تكون المصلحة العامة هي التي تحكم، ويكون الشأن العام ذا شأن حقيقة. فكل حكومة شرعية تكون جمهورية. ولسوف أشرح فيما بعد ما هي ماهية كلمة حكومة.
ليست القوانين بمعناها المحدد سوى الشروط للاتحاد المدني. والشعب الخاضع لهذه القوانين يجب ان يكون واضعها، إذا ان تنظيم شروط المجتمع لا يعني إلا أولئك الذين يتحدون، ولكن كيف ينظمونها؟ هل يتم ذلك باتفاق مشترك، بإلهام مفاجئ؟ وهل للهيئة السياسية جهاز لإعلان تلك الإرادات؟ فمن الذي سيعطيها البصيرة الثاقبة الضرورية لتكوين ما يصدر عنها من أحكام ونشرها مقدما، أو كيف لها ان تصدرها عند الاقتضاء؟ وكيف يتسنى لجمهور أعمى، لا يعرف ما يريد في كثير من الأحيان لأنه نادرا ما يعرف ما يكون خيرا له، ان يقوم من نفسه بتنفيذ مشروع عظيم إلى هذا الحد وصعب كالنظام التشريعي؟ ان الشعب يريد الخير دائما من تلقاء نفسه ولكنه لا يعرف الخير دائما من تلقاء نفسه. والإرادة العامة تكون دائما سديدة ولكن الحكم الذي يوجهها لا يكون دائما مستنيرا. لذلك يجب العمل دائما على ان ترى الأمور على حقيقتها، وأحيانا كما يجب ان تبدو لها وإرشادها إلى السبيل السوي الذي تسعى إليه وحمايتها من إغراء الإرادات الخاصة وتقريب الأمكنة والأزمنة إلى ذهنها والتخلص من إغراء المزايا الحاضرة والمحسوسة بخطر الشرور البعيدة والخفية. ان الأفراد يرون الخير الذي ينبذونه، ولكن الشعب يريد الخير الذي لا يراه. فالجميع، على حد سواء، بحاجة إلى من يرشدهم. يجب إلزام الأولين على مواءمة إرادتهم مع عقولهم، ويجب تعليم الشعب على ان يعرف ما يريد. وعندئذ ينشأ من الاستنارات العامة اتحاد الإدراك والإرادة في الهيئة الاجتماعية، حيث ينبثق التعاون الصحيح بين جميع الأطراف، وبالتالي أعظم قوة للكل. وها هنا منشأ الضرورة للمشرع.

الفصل السابع: في المشرّع
لاكتشاف أفضل قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم لابد من توفر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني منها أي هوى، ولا تكون له أية علاقة مع طبيعتنا لكنه يدركها حتى أعماقها، وتكون سعادته مستقلة عنا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيرا ان يستطيع هذا العقل، وهو يراعي مجدا بعيدا لنفسه في تقدم العصور، العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر. وبعبارة أخرى لا بد من آلهة لتمنح القوانين للبشر.
إن المحاججة نفسها التي كان يجريها كاليجو لا فيما يتعلق بالفعل، كان يجريها أفلاطون فيما يتعلق بالحق لتعريف الإنسان المدني أو الملكي الذي كان يبحث عنه في كتابه الحكم، أما إذا كان صحيحا ان الأمير العظيم يكون نادر الوجود فماذا يكون من أمر المشرع العظيم؟ فليس على الأول إلا ان يسير على خطى المثل الذي يجب ان يرسمه المشرع له. أما هذا فانه الميكانيكي الذي يخترع الآلة في حين لا يكون ذاك إلا العمل الذي يركبها ويجعلها تسير. ان زعماء الجمهوريات، في ميلاد المجتمعات هم الذين، كما يقول مونتسيكو، يقيمون المؤسسة وإن المؤسسة بدورها هي التي تشكل رؤساء الجمهوريات.
إن من يجرؤ على مباشرة تنظيم شعب يجب ان يشعر أنه في ذلك بصدد تغيير الطبيعة البشرية، بصدد تحويل كل فرد، من شخص يكون، بذاته، كلا كاملا ومنعزلا، إلى جزء من كل أكبر منه يتلقى منه هذا الفرد، على هذا النحو، حياته وكيانه، وتبديل تكوين الإنسان من أجل تقويته، وإحلال وجود جزئي ومعنوي مكان وجود مادي ومستقل تلقيناه جميعنا من الطبيعة. ويجب باختصار، ان ينزع من الإنسان قواه الخاصة ليمنحه قوى غريبة عنه لا يستطيع استخدامها بلا مساعدة الآخرين. وكلما كانت قواه الطبيعية ميتة ومتلاشية، كانت القوى المكتسبة أعظم وأرسخ، وكانت المؤسسة أمتن وأكمل. بحيث إذا لم يكن كل مواطن شيئا، لا يستطيع شيئا إلا بجميع الآخرين وان القوة المكتسبة من الكل تكون مساوية أو أكثر من مجموع القوى الطبيعية لجميع الأفراد، فيكون في وسعنا القول: ان التشريع قد بلغ منتهى الكمال الذي يستطيع الوصول إليه.
فالمشرع من أية ناحية نظرنا إليه، شخص ممتاز في الدولة. وإذا كان كذلك بعبقريته فهو لا يقل عنه في وظيفته. وهي ليست منصب قضاء ولا سيادة قط. فإن هذه الوظيفة التي تكون الجمهورية لا تدخل قط في تكوينها. فهي وظيفة خاصة وسامية، لا شيء مشترك بينها وبين السلطة البشرية، إذ ان من يوجه البشر ليس عليه ان يوجه القوانين ومن يوجه القوانين ليس عليه كذلك ان يوجه البشر، وإلا لما فعلت قوانينه الخادمة لأهوائه، إلا إدامة مظالمه في أكثر الأحيان، ولن يستطيع أبدا تجنب ان تفسد وجهات نظر خاصة قداسة عمله.
عندما منح ليكورغوس قوانين لوطنه بدأها بالتنحي عن الملك. فقد كان العرف السائد في معظم المدن الإغريقية ان تعهد إلى أجانب بوضع قوانينها.
وغالبا ما اتبعت الجمهوريات الحديثة في إيطاليا هذا التقليد. كما لجأت جمهورية جنيف إلى مثل ذلك فتحسنت به حالها. ولقد شهدت روما في أزهى عصورها نشوء جميع جرائم الطغيان في ظهرانيها ووجدت نفسها على وشك الهلاك لانها جمعت في نفس الأيدي السلطتين التشريعية والسيادية.
في حين ان الحكام العشرة (Decemvirs) أنفسهم لم يستأثروا أبدا بحق العمل على تقديم أي قانون بمحض سلطتهم. كانوا يقولون للشعب: ما من شيء مما نقترحه يصبح بحكم القانون دون موافقتكم. أيها الرومان، كونوا أنتم أنفسكم واضعي القوانين التي تصنع سعادتكم.
ليس لمن يكتب القوانين إذن أو لا ينبغي ان يكون له، أي حق تشريعي. ولا يستطيع الشعب نفسه، عندما يريده، ان يتنازل عن هذا الحق الذي لا يمكن انتقاله، لأنه بمقتضى الميثاق الأساسي ليس هناك إلا الإرادة العامة التي تلزم الأفراد، وإننا لا نستطيع أبدا التأكد من ان إرادة خاصة هي مطابقة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لاقتراع الشعب عليها، ولقد سبق لي ان قلت ذلك إلا ان تكراره لا يخلو من فائدة.
هكذا نجد معا في تأليف التشريع أمرين يبدو أنهما غير متفقين: عملية فوق القدرة البشرية ومن أجل تنفيذها؛ سلطة ليست شيئا مذكورا.
وثمة صعوبة أخرى تستحق الاهتمام. وهي ان الحكماء الذين يريدون التحدث إلى العامة بلغتهم بدلا من لغتها لا يمكن ان تفهمهم. إذ ان هناك ألف نوع من الأفكار التي يستحيل ترجمتها إلى لغة الشعب. كما ان النظرات المبالغة في تعميمها والأهداف البعيدة جدا تتجاوز إدراكه، إذ ان كل فرد لا يتذوق نظاما للحكم غير ما يتفق مع مصلحته الخاصة، يتبين بصعوبة المزايا التي تعود عليه نتيجة الحرمان المستمر الذي تفرضه القوانين الجيدة. ولكي يتمكن شعب ناشئ من تذوق المبادئ الأساسية الصحيحة في السياسة ويتبع القواعد الأساسية في قيام الدولة، فلا بد من ان يمكن للمعلول ان يصير علة وأن تتصدر الروح الاجتماعية، التي يجب ان تكون من صنع النظام، النظام نفسه، وأن يكون البشر أمام القوانين ما يجب ان يكونوا بها. هكذا إذن تكون ثمة ضرورة: فيما ان المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاججة، فعليه ان يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها ان تقود دون عنف وأن تقنع دون إفحام.
هذا هو ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعانة بتدخل السماء وأن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب، الخاضعة لقوانين الدولة كخضوعها لقوانين الطبيعة ومعترفة بالسلطة نفسها في تكوين الإنسان وفي تكوين المدينة السياسية، بحرية، وتحمل نير الهناء العام المشترك بكل انقياد.
هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية، أولئك الذين لا يمكن ان تزحزحهم الحكمة البشرية. ولكن لا يحق لكل إنسان ان يجعل الآلهة تتكلم ولا ان يكون مصدقا عندما ينبئ الناس أنه ترجمانها. فإن روح المشرع العظيمة هي المعجزة التي يجب ان تثبت رسالته. ففي وسع كل إنسان ان ينقش ألواحا من حجر، أو ان يشتري وسيطا للوحي (Oracle)، أو يزعم اتصالا سريا بـأحد الآلهة، أو يدرب طيرا ليتعلم الهمس في أذنه أو العثور على وسائل أخرى فظة لخداع الشعب. ان من لا يستطيع غير ذلك يكون في وسعه حتى ان يجمع حوله، صدفة، جماعة من الحمقى، لكنه سوف لا يؤسس حكما أبدا وسرعان ما يتلاشى عمله مع هلاكه. ذلك ان المجد الباطل يشكل علاقة عابرة. فليس ثمة ما يجعله دائما سوى الحكمة. ان الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون، ما برحت تنبئ حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فان السياسة الحقيقية تعجب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تشرف على منشآتهم الدائمة.
ينبغي ان لا نخلص من كل هذا إلى القول مع واربورتن (Warburton) بأن للسياسة والدين بيننا هدفا مشتركا وإنما، في أصل الأمم، يفيد أحدهما أداة للآخر.

الفصل التاسع: في الشعب (تابع)
كما أعطت الطبيعة حدودا لقوام الرجل حسن التكوين فإذا ما زاد عنها أو قل يكون إما عملاقا وإما قزما، كذلك راعت التكوين الأفضل للدولة بالحدود التي يمكنها ان تمتد إليها لكي لا تكون كبيرة جدا يتعذر حكمها على وجه حسن ولا صغيرة جدا لكي تستطيع المحافظة على نفسها بنفسها. ففي كل هيئة سياسية حد أعلى من القوة لا يكون في وسعها تجاوزه، غالبا ما تبتعد عنه من فرط تعاظمها. وكلما اتسعت الرابطة الاجتماعية كلما تراخت وبصفة عامة تكون الدولة الصغيرة، نسبيا، أقوى من الكبيرة.
هناك ألف دليل للبرهان على صحة هذه الحقيقة العامة. أولا: ان الإدارة تصبح أشق في المسافات البعيدة، كما يصبح الوزن أثقل على طرف رافعة أطول. كما تصبح أكثر كلفة كلما تضاعفت الأطراف، ذلك ان لكل مدينة هيئتها الإدارية، قبل كل شيء، التي يتحمل الشعب نفقاتها، ولكل منطقة إدارتها التي يدفع الشعب نفقاتها أيضا، ثم لكل ولاية. وأخيرا الحكومات الكبيرة والمرازبة ونواب الملكية الذين يجب ان ندفع لهم بسخاء كلما ارتفعت درجاتهم. ويكون ذلك دائما على حساب الشعب البائس. وفوق ذلك كله تأتي الإدارة العليا التي تسحق الجميع. فإن أعباء كثيرة كهذه الأعباء تستنزف قوى الرعايا باستمرار، وبدلا من ان تحكمهم مختلف هذه الأنظمة حكما أفضل تصبح حالتهم أسوأ مما لو كانوا خاضعين لنظام واحد. ويكاد لا يبقى والحالة هذه من الموارد ما يغنى بمواجهة الطوارئ وعندما تعمد الدولة إلى الحصول على موارد لها تكون دائما على وشك الوقوع في خراب شامل.
وهذا ليس كل شيء، إذ لا يقتصر الأمر على ان تكون الحكومة أقل حيوية وسرعة في فرض مراعاة القوانين ومنع الإساءات وتقويم التعسفات والحيلولة دون المشاريع التمردية التي يمكن وقوعها في الأماكن البعيدة، بل يكون الشعب أقل حبا لزعمائه الذين لا يراهم أبدا، ولوطنه الذي يتساوى في نظره مع الدنيا كلها، ولمواطنيه الذين يكون معظمهم غرباء بالنسبة له. حتى القوانين نفسها لا يمكنها ان تلائم ذلك العدد الكبير من الولايات المتباينة التي تكون لكل منها طباعها المختلفة وتعيش في ظل ظروف مناخية متعارضة وبالتالي لا تستطيع تحمل شكل الحكومة نفسه. وعلى هذا فإن قوانين مختلفة لا تولد إلا الاضطراب والارتباك بين شعوب، إذ تعيش تحت راية الزعماء أنفسهم وعلى اتصال مستمر، ينتقل بعضهم إلى جوار بعض أو يتزاوجون، وإذ يخضعون لعادات أخرى، لا تعرف أبدا إذا كان تراثهم هو ملكهم حقا. فتدفن المواهب وتغفل الفضائل وتظل الرذائل بلا عقاب في ذلك الجمع من الناس الذي يجهل بعضهم بعضا، والذين تضمهم سلطة إدارية عليا في مكان واحد. وحيث لا يتمكن الزعماء المثقلون بالأعباء من مباشرة الأمور بأنفسهم، فإن الموظفين هم الذين يحكمون الدولة. وأخيرا تمتص الإجراءات التي يجب اتخاذها للمحافظة على السلطة العامة التي يرغب ضباط بعيدون كثيرون في التملص منها أو فرض أنفسهم عليها، جميع الاهتمامات العامة فلا يبقى منها شيء لسعادة الشعب، وبالكاد يبقى ما يفي بالدفاع عنه عند الحاجة، وهكذا تخور عزائم هيئة مفرطة في ضخامتها بالنسبة لدستورها فتنهار مسحوقة تحت ثقل أعبائها نفسها.
ولا بد للدولة من ناحية أخرى، من ان توفر لنفسها أساسا معينا لضمان صلابتها وصمودها في وجه الهزات التي ستتعرض لها ولما ستضطر إلى بذله من جهود في سبيل تدعيم نفسها. إذ ان لجميع الشعوب قوة نابذة تدفعها على الدوام إلى ان يتصرف بعضها ضد البعض الآخر فتنجح إلى التوسع على حساب جيرانها، كدوامات "ديكارت". وهكذا سرعان ما تتعرض الضعيفة منها للابتلاع، وقلما يستطيع أحد منها ان يحافظ على بقائه إلا بأن يضع نفسه، مع الجميع، في نوع من التوازي يجعل الضغط في كل مكان متساويا تقريبا.
نتبين من ذلك ان ثمة أسباب تدعو إلى التوسع وأسباب تدعو إلى الانكماش، وإيجاد أنسب حجم للمحافظة على الدولة، بين هذه وتلك من الدول، ليس أقل مواهب السياسة. ويمكن القول بصفة عامة أنه وجب ان تكون الاعتبارات الأولى، إذ أنها ليست سوى خارجية ونسبية، خاضعة للاعتبارات الأخرى التي هي داخلية ومطلقة، وأول ما يجب العمل على تحقيقه هو دستور صحيح وقوي، إذ يجب الاعتماد على الحيوية التي تنشأ عن حكومة جيدة أكثر من الاعتماد على موارد توفرها مملكة واسعة الأطراف.
ومع ذلك رأينا دولا متكونة على نحو كانت ضرورة الفتوح تدخل في دستورها نفسه وانها كانت للإبقاء على نفسها مجبرة على التوسع بلا انقطاع. ولعلها كانت تهنئ نفسها كثيرا على هذه الضرورة السعيدة التي كانت تشير لها، ومع ذلك، إلى لحظة انهيارها المحتوم في نهاية توسعها.

الكتاب الثالث
الفصل الأول: في الحكومة بصفة عامة
أوجه نظر القارئ إلى أنه يجب قراءة هذا الفصل بعناية وإلى انني لا أعرف كيف أكون واضحا لمن لا يريد ان يكون متنبها.
لكل عمل حر سببان يساعدان في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل، والآخر مادي وهو القوة التي تنفذه. فعندما أسير إلى هدف يجب أولا ان أريد الذهاب إليه، وأن تأخذني قدماي إليه، ثانيا. ولئن أراد مشلول الركض وكان رجل رشيق لا يريد ذلك، فكلاهما يبقى في الحالتين مكانه. وللهيئة السياسية البواعث نفسها، كذلك يمكننا التمييز بين القوة والإرادة، حيث تكون هذه باسم السلطة التشريعية والأخرى باسم السلطة التنفيذية. فما من شيء يجري فيها أو لا يجب ان يجري فيها دون مساعدة هاتين السلطتين.
رأينا ان السلطة التشريعية تخص الشعب ولا يمكن ان تخص إلا الشعب. ومن السهل ان نرى على العكس، من المبادئ المقرة فيما تقدم، ان السلطة التنفيذية لا يمكن ان تخص مجموع الناس بوصف هذا المجموع مشرعا أو صاحب سيادة، لأن هذه السلطة لا تتكون إلا من أفعال خاصة، لا تكون قط من اختصاص القانون ولا هي بالتالي من شأن صاحب السيادة الذي لا يمكن لأفعاله إلا ان تكون قوانين.
يجب إذن ان يتوفر للقوة العامة عامل خاص يوحدها ويحركها وفقا لاتجاهات الإرادة العامة، يخدم اتصال الدولة بصاحب السيادة، يعمل تقريبا في الشخصية العامة ما يفعله في الإنسان اتحاد الروح بالجسد. هذا هو، في الدولة، سبب وجود الحكومة، الذي يخلط بلا مبرر بينه وبين صاحب السيادة في حين انه ليس إلا خادمها.
فما هي الحكومة إذن؟ إنها هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء.
...
انني، إذن، أطلق اسم حكومة أو إرادة عليا على الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية، واسم أمير أو وال أو حاكم على الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة.
ذلك ان القوة الوسيطة التي تؤلف علاقاتها علاقة الكل بالكل أو علاقة صاحب السيادة بالدولة، توجد في الحكومة. ويمكن تمثيل تلك الرابطة الأخيرة بالرابطة بين أطراف تكافؤ مستمر، متوسطُهُ المناسب هو الحكومة. فالحكومة تتلقى من صاحب السيادة الأوامر التي يصدرها إلى الشعب ولكي تكون الدولة في توازن سليم يجب، مع توازن الكل، ان توجد هناك مساواة بين النتيجة أو سلطة الحكومة في حد ذاتها والنتيجة أو سلطة المواطنين الذين هم أصحاب سيادة من جهة ورعايا من جهة أخرى.
ليس في وسعنا، بالإضافة إلى ذلك، تعديل أي من هذه الحدود الثلاثة دون الإخلال بالنسبة في الحال. فإذا كان صاحب السيادة يريد ان يحكم أو إذا كان الوالي يريد إصدار القوانين أو إذا كان الرعايا يرفضون الطاعة، فإن الاضطراب يحل محل النظام ولا تعود القوة والإرادة تعملان بانسجام، فتسقط الدولة المنحلة على هذا النحو في مهاوي الاستبداد أو في الفوضى. ولما كان لا يوجد، أخيرا، سوى متوسط نسبي واحد بين كل علاقة فإنه لا يوجد كذلك إلا حكومة واحدة صالحة ممكنة في دولة واحدة. ولكن كما ان ألف حادث يستطيع تغيير علاقات شعب فلا يكون في وسع حكومات مختلفة ان تكون صالحة لشعوب متنوعة فحسب بل وتكون كذلك لشعب واحد في أزمنة مختلفة.
...
إلا ان هناك هذا الفارق الأساسي بين هاتين الهيئتين، وهو ان الدولة توجد بذاتها وان الحكومة لا توجد إلا بصاحب السيادة. وعلى هذا فإرادة الأمير السائدة ليست أو لا يجب ان تكون إلا الإرادة العامة أو القانون، وقوته ليست إلا القوة العامة مركزة فيه، وما ان يريد إتيان عمل مطلق ومستقل من تلقاء نفسه حتى تأخذ رابطة الكل بالتراخي. وإذا حدث أخيرا ان صارت للأمير إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة صاحب السيادة فاستعمل، لفرض الطاعة لهذه الإرادة الخاصة، ما يكون في يديه من القوة العامة، بحيث يصبح هناك تقريبا صاحبا سيادة، أحدهما بالحق والآخر بالفعل، انهار الاتحاد الاجتماعي في الحال وانحلت الهيئة السياسية.
ولكي يكون لهيئة الحكومة وجود، مع ذلك، حياة حقيقية تميزها عن هيئة الدولة، وليستطيع جميع أعضائها العمل في تناسق واتفاق مع الغاية التي أنشئت من أجلها، يجب ان يكون لها أنا خاصة، هي وعي مشترك بين أعضائها، قوة، إرادة خاصة بها تميل إلى المحافظة عليها. هذا الوجود الخاص يفترض وجود اجتماعات ومجالس وسلطة للمداولة وللحل وحقوق وألقاب وامتيازات يختص بها الأمير وحده وتجعل منصب الحاكم أكثر احتراما بنسبة ما يكون شاقا. وتكون الصعوبات في طريقة تنظيم هذا الكل التابع في الكل بحيث لا يبدل قط التكوين العام بتأكيد تكوينه هو، وأن يميز دائما قوته الخاصة المعينة للمحافظة عليه ذاته من القوة العامة المخصصة للمحافظة على الدولة، وأن يكون باختصار دائما مستعدا للتضحية بالحكومة من أجل الشعب لا بالشعب من اجل الحكومة.
...
الكتاب الرابع
الفصل الثاني: في التصويت
نرى من الفصل السابق ان الأسلوب الذي تعالج به الشؤون العامة يمكن ان يعطينا مؤشرا أكيدا إلى حد ما عن حالة الأخلاق الحاضرة وعن سلامة الهيئة السياسية. فكلما كان الانسجام سائدا في الاجتماعات، أي كلما كانت الآراء تقترب من الإجماع، كلما كانت كذلك الإرادة العامة مسيطرة، لكن المناقشات الطويلة والانشقاقات والصخب، تنبئ عن تصاعد المصالح الخاصة وعلى انحدار الدولة.
يبدو هذا أقل وضوحا عندما تدخل في تكوينها طبقتان أو أكثر، كالأشراف والعامة في روما اللتين كثيرا ما أقلقت منازعاتهما الجمعيات الشعبية، حتى في أزهى أيام الجمهورية. لكن هذا الاستثناء ظاهري أكثر منه حقيقي، ذلك أنه بسبب من الآفة الملازمة للهيئة السياسية نجد، إذا صح القول، دولتين في واحدة، وكل ما لا يكون صحيحا عن الاثنتين معا يكون صحيحا عن كل واحدة منهما على حدة. وفي الواقع، إنه حتى في أشد الأوقات الصاخبة كانت استفتاءات الشعب العامة عندما لم يكن يتدخل فيها مجلس الشيوخ، تجري دائما بهدوء وبأكثرية الأصوات الساحقة. ولما كان المواطنون ليسوا إلا أصحاب مصلحة واحدة فإن الشعب لم يكن له إلا إرادة واحدة.
في النهاية الأخرى من الدائرة يتم الإجماع، وذلك عندما لا يعود للمواطنين وقد سقطوا في العبودية لا حرية ولا إرادة. عندئذ يبدل الخوف والتملق التصويت بهتافات، فيبطل التداول ولا يبقى إلا العبادة أو اللعن. وقد كانت هذه هي الطريقة الخسيسة التي يبدي بها مجلس الشيوخ رأيه تحت حكم الأباطرة. وأحيانا كان هذا يتم في ظل احتياطات مضحكة: فقد لاحظ تاسيت، أثناء حكم أوثون (Othon) ان أعضاء مجلس الشيوخ، إذا انهالوا على فيتيلليوس باللعنات، كانوا يتصنعون في الوقت نفسه بإثارة ضجة مخيفة، حتى إذا ما حدث وأصبح سيدا، لا يتمكن من معرفة ماذا قال كل منهم.
من هذه الاعتبارات المختلفة تنشأ المبادئ الأساسية التي يجب ان تنظم وفقها طريقة حساب الأصوات ومقارنة الآراء بحسب ما يكون من السهل أو الصعب معرفة الإرادة العامة ومدى زيادة أو قلة انحدار الدولة.
وليس هناك سوى قانون واحد يتطلب بطبيعته موافقة إجماعية. ذلك هو العقد الاجتماعي. إذ ان الاتحاد المدني هو أكثر عقود الدنيا اختيارا، فكل إنسان نظرا لأنه يولد حرا وسيدا لنفسه، لا يستطيع أحد، بأية حجة كانت، إخضاعه دون إقراره. فالقضاء بأن ابن العبد يولد عبدا هو القضاء بأنه لا يولد إنسانا.
إذا كان قد وجد إذا حين العقد الاجتماعي معارضون فيه، فإن معارضتهم لا تبطل العقد، انها تحول فحسب دون ان يدخلوا فيه، فهم أغراب بين المواطنين. وعندما تكون الدولة قد أسست، فإن الإقامة فيها علامة الرضا، إذ تصبح سكنة الإقليم خضوعا للسيادة.
وما خلا هذا العقد الأولي يكون صوت العدد الأكبر ملزما للآخرين جميعهم. انها تتمة للعقد نفسه. ولكن رب سائل يسأل: كيف يمكن لإنسان ان يكون حرا ومرغما على الخضوع لإرادة ليست إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارا وخاضعين لقوانين لم يوافقوا عليها؟
أجيب على ذلك بأن السؤال لم يطرح كما ينبغي. فالمواطن يوافق على جميع القوانين حتى على تلك التي تجاز رغما عنه، بل وعلى تلك التي تعاقبه عندما يجرؤ على انتهاك حرمة واحد منها. ان الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة، فبمقتضاها هم مواطنون وأحرار. وعندما يقترح قانون في مجلس الشعب، فما يطلب منهم ليس بالضبط إبداء موافقتهم عليه أو رفضه، وإنما إذا كان يطابق أولا للإرادة العامة التي هي إرادتهم، وكل واحد وهو يدلي بصوته يقول رأيه في ذلك... وبحساب الأصوات يصدر إعلان الإرادة العامة. وعندما يتغلب إذا الرأي المعارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على شيء سوى أنني كنت مخطئا وان ما كنت أقدر أنه الإرادة العامة لم يكنها. ولو ان رأيي الخاص هو الذي تغلب لكنت فعلت غير ما كنت قد أردت، وعندئذ ما كنت لأكون حرا.
حقيقة ان ذلك يفترض ان تكون جميع خصائص الإرادة العامة ما زالت بعد في حالة الأكثرية، وعندما تكف عن ان تكون كذلك فلا تبقى هناك حرية أيا كان الفريق المنتمي إليه.
إنني إذ أوضحت فيما تقدم كيف تحل الإرادة محل الإرادة العامة في المداولات العامة، قد بينت بيانا كافيا الوسائل العملية لتجنب هذا التعدي وسأتكلم في ذلك أيضا فيما بعد. أما فيما يتعلق بالعدد النسبي للأصوات اللازمة لإعلان هذه الإرادة فقد أعطيت كذلك التي يمكن تحديده بها. ان فرقا من صوت واحد يقضي على التساوي في الأصوات، ويقضي معارض واحد على الإجماع، ولكن بين الإجماع والتساوي توجد عدة تقسيمات غير متساوية يمكن ان نحدد هذا العدد لكل منها بحسب حالة الهيئة السياسية وحاجاتها.
ثمة مبدآن أساسيان عامان يفيدان في تنظيم هذه العلاقات: أحدهما هو أنه كلما كانت المداولات هامة وخطيرة، كلما وجب ان يكون الرأي الذي يتغلب مقتربا من الإجماع. والآخر هو أنه كلما كانت المسألة المثارة تتطلب سرعة أكثر كلما كان يجب تضييق الفارق المعين في تقسيم الآراء، أما في المداولات التي يجب إتمامها في الحال فإن زيادة صوت يجب ان تكفي. ويلوح لي ان المبدأ الأول أكثر ملاءمة للقوانين، وأن الثاني أكثر ملاءمة لتصريف الأمور. ومهما يكن من الأمر فإن على المزج بينهما تبنى أفضل النسب التي يمكن منحها للأكثرية من أجل إصدار القرارات.

الفصل الثامن: في الدين المدني...
قد ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين، وهما دين الإنسان ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن ان نسميه القانون الإلهي الطبيعي. الثاني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحُماته: ان له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن ان نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.
ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من ان يكونوا في ان واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن. وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقا.
وإذا ما نظرنا سياسيا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها جميعها تنطوي على أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك. إذ ان كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.
والثاني جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم ان خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني حيث لا ينبغي ان يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوانين إلحادا وإخضاع الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacer estod).
لكنه سيئ في أنه يخدع البشر، نظرا لأنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء، متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفان من الطقوس الجوفاء. وهو سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا القتل والمذابح ويعتقد أنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كان لا يؤمن بآلهته. وهو ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا بأمنه الخاص.
يبقى إذن دين الإنسان أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، أنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى الموت.
لكن هذا الدين، لما كان لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوانين القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون ان يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من ان يربط قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.
يقال لنا ان شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء ان يتخيله. وأنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي ان مجتمعا مكونا من مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.
بل انني أقول بأن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله نفسه.
كل إنسان سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.
ان المسيحية هي دين روحاني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس في هذا العالم. صحيح أنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء عاقبة مساعيه. وشريطة ان لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه ان تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كانت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى ان يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.
ولكي يكون المجتمع هادئا ويبقى الانسجام فيه، لا بد من ان يكون المواطنون جميعهم بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد، مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار. وما ان يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في ان يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له ان يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجان الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف، وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم ان يكون الإنسان حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.
وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على باله الفرار، انهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كانوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس، ان يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض للمجد وللوطن، ولنقدر ان هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل ان يمكنهم الوقت من التعارف، أو أنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كانت عظة جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو النصر، وإنما أقسموا على ان يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كان للمسيحيين أبدا ان يفعلوا مثل ذلك، كانوا يعتقدون أنهم يمتحنون الله.
لكنني أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك ان المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيان، ولو أنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.
كان الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب المسيحيين على ما أظن، فتلك كانت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ ان أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت البسالة الرومانية كلها.
ولكن لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جانبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة الهامة. ان الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط، كما سبق ان قلت، حدود المنفعة العامة، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة ان يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين. وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد ان يعتنق من الآراء ما يطيب له دون ان يكون من حق صاحب السيادة معرفتها. إذ بما أنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كان مصير رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شأنه بشرط ان يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.
...
يجب ان تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. ان الإيمان بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوانين، هي العقائد الإيجابية. أما فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: انها تدخل في العبادات التي استبعدناها.
...
والآن، إذ لم يبق ولا يمكن ان يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن. ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب ان يطرد من الدولة، ما لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم. فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...

محاورات حول المسألة الكوردية مع الأستاذ جاد الكريم الجباعي

محاورات حول المسألة الكوردية مع الأستاذ جاد الكريم الجباعي
إعداد: هفال يوسف
لأستاذ جاد الكريم الجباعي مفكر سوري معروف وناشط سياسي في لجان إحياء المجتمع المدني. له مؤلّّفات عدة، من بينها: "حرية الآخر: نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية"، و"المجتمع المدني هوية الاختلاف."
"كتبٌ مقدسة وجرحٌ في الهوية"محمود درويش
* عقدت بتاريخ 11/1/2004، ضمن فعاليات منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي مائدة مستديرة حول القضية الكردية في سورية بإدارتك، وأشرت حينها إلى أن الوعي الأيديولوجي بتياراته الثلاثة القومي والاشتراكي والإسلامي ينكر وجود مشكلة كردية في سورية، بما ينسجم مع الموقف الرسمي. وبحسب فهمي لكتاباتك فإن هذا الإنكار لا يعنيك، لأنك مهتم بمعطيات الواقع. سؤالي هو: كيف تعرِّف المسألة الكردية في سورية؟ وما هي معطياتها وأبعادها؟
** قبل الحديث عن الوعي الأيديولوجي، دعنا ننطلق في البداية من تحديد مقولة الوعي، بإزاء مقولة الوجود، أي مما سمي المسألة الفلسفية الأولى، مسألة أيهما أسبق أو أبدأ من الآخر؟ الوعي أم الوجود؟ وأيهما ينتج الآخر؟ الوعي أم الوجود؟ تقول البداهة إننا إزاء مقولتين، ومن ثم إزاء إجابتين ممكنتين: واحدة تقول بأولوية الوعي أو الفكر أو الروح، والثانية تقول بأولوية الوجود. وقد حددت هاتان الإجابتان تيارين في الفكر البشري متناقضين تناقضاً مطلقاً في هذه المسألة فقط، ونسبياً فيما عداها، وهذه النسبية هي ما تعنينا اليوم. لأن الوعي بالتعريف هو الوجود مدركاً على نحو ما ومحوَّلاً في الذهن، وليس بوسع أحد من أي من التيارين أن يدعي أنه بلغ درجة المطابقة بين الوعي والوجود، ومن ثم فإن وعي الإنسان وعلمه ناقصان أبداً، يلتبس فيهما الصواب بالخطأ.
ولعله من باب التجريد النظري الخالص أن نتحدث عن الوعي والوجود من دون مقولة الشغل أو العمل البشري الخلاق، العمل/المعرفة، فبالعمل ينتج الإنسان ذاته في العالم وفي التاريخ، ويتعرف عالمه ويستعيد موضوعيته في ذاته، أي في وعيه، مرة تلو مرة، ويبني صرح معارفه وعلومه، أو ينتج ثقافته شكلاً لوجوده في كل مرحلة من مراحل تطوره. ومن ثم فإن وعي جماعة ما مرتبط أوثق ارتباط وأشده بنمط إنتاج حياتها الاجتماعية، على جميع الصعد، الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وعلى صعيد البنى والتنظيمات والمؤسسات والعلاقات التي تقيمها لنفسها تعبيراً عن هويتها، أو تحديداً ذاتياً لوجودها. وإذا كنا لا نماري اليوم في واقع تأخر مجتمعاتنا، قياساً بالمجتمعات المتقدمة، فعلينا أن نعترف بتأخرها على صعيد الإنتاج الاجتماعي، بالمعنى الشامل للكلمة، ولا سيما على صعيد الوعي والفكر. وأعني بالإنتاج الاجتماعي: إنتاج الثروة المادية والثروة الروحية والتنظيمات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية بالتلازم الضروري، سببياً لا ميكانيكياً. ولما كانت الأيديولوجيات الكبرى القومية والاشتراكية والإسلامية قد طبعت حياتنا الثقافية والسياسية والأخلاقية بطابعها ووسمتها بسماتها، وأبرزها "الولاء والبراء" والتمامية والكمال واحتكار الحقيقة والاستبداد الديني والفكري والسياسي القائم على فكرة التجانس والنقاء، وعدم الاعتراف بأفرادية الواقع واختلاف عناصره ومكوناته، فضلاً عن انغلاقها وانقطاع علاقتها بالواقع، بات من الضروري نقد هذه الإيديولوجيات، ونقد الوعي الأيديولوجي بوجه عام ومعارضته بالوعي الواقعي، أي بالعودة إلى لحظة الأمية والصفحة البيضاء (بتعبير الياس مرقص)، والتحرر من جميع مسبقاتنا وقبلياتنا وقبَلياتنا ومطلقاتنا وثوابتنا القومية والثورية والدينية، لكي نتمكن من رؤية الواقع كما هو، لا كما نريده، ونكتشف منطقه الجدلي والإمكاني أو الاحتمالي.
أدَّعي أن الأيديولوجيات الكبرى التي أشرت إليها لا تعترف بوجود مشكلة كردية في سورية، لا لأنها متواطئة على الأكراد أو معادية لهم، بل لأن كلاً منها لا ترى الواقع إلا بمنظارها الخاص، أي بمنظار وعيها الحصري والإقصائي، وفي ضوء أهدافها وغاياتها، وبدلالة مسبقاتها ومطلقاتها، ولأنها جميعاً تنطلق من الهدف إلى الواقع، ومن الوعي الموروث غالباً إلى الوجود، ولأنها جميعاً لا تعترف بأفرادية الواقع ومعقولية العالم، ولا تعبأ بالمشكلات العيانية، وحين تفعل ذلك؛ فهي إما أن تستهين بها وإما أن تضخمها، فلا تلتمس لها حلولاً ناجعة. وحين أتحدث عن الوعي الأيديولوجي لا أستثني الكرد السوريين وغير السوريين، ودعنا لا نتحدث إلا عن الكرد السوريين، لا من قبيل تقليص القضية الكوردية أو تخفيضها، بل من قبيل الاعتراف بالوقائع العنيدة التي نجمت عن تقاسم الدول الكبرى لهذه المنطقة واحتلالها وإقامة دول "حديثة" فيها. ولعل استمرار هذه الوقائع حتى يومنا يكفي للنظر إليها على أنها حقائق واقعية لا بد من الانطلاق منها لتحديد معالم الحاضر وآفاق المستقبل. وإذا كان العرب والكورد قد خضعوا معاً لعملية التقاسم والتقسيم والاحتلال والاستقلال، فمن غير المنطقي قول بعضهم إن العرب يحتلون بعضاً من "وطن" الكورد التاريخي، أو قول بعض العرب إن الأكراد خطر على العرب لا يقل عن خطر إسرائيل. وأود أن أشير هنا إلى أن العرب والكورد يفتقرون على السواء إلى وعي تاريخي، وإلى أن فكرة الماضي تتطابق لديهم مع فكرة التاريخ، وإلى أنهم ينطلقون في تحديد ذواتهم من مقولة الأصل لا من مقولة الهوية، وشتان ما بين الأصل /العرق والهوية/التاريخ، ويتغنون بالأصالة ويرفعونها إلى مصاف المقدس، فتغيب عن وعيهم الأصالوي فكرة الإنسان وفكرة الحرية، وتغيب معها فكرة الوطن/الدولة وفكرة المواطنة.
يتطلع العرب، ويتطلع الكورد مثلهم إلى "وحدة قومية" و "دولة قومية"، ولعلهم يرغبون في أن تكون هذه "الدولة القومية" نقية عرقياً، وأقول هذه الدولة القومية؛ لأنها حاضرة في الوعي الأيديولوجي كأنها في متناول اليد، ويستندون في ذلك إلى مشروعية الماضي والتراث والأصالة، بما هي أهم مقومات الوعي القومي التقليدي والرومانسي. والتطلع والرغبة مشروعان كلاهما، ولكن السؤال هو: هل هذان التطلع والرغبة من ممكنات الواقع؟ ليس لعاقل يعترف باحتمالية الواقع وبـ "خصوبة اللامتوقع" أن ينفي ذلك؛ ولكن السؤال يتخطى حدود المنطق الصوري والفكر المجرد إلى منطق الواقع ومعقولية العالم، ونسبة القوى الدافعة في هذا الاتجاه إلى قوى العطالة والممانعة، لا على الصعيد المحلي فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ولما كنت من الذين يقولون إن الوحدة العربية ممكنة، فإنني لا أنظر إلى المشروع الوحدوي إلا بوصفه مشروعاً ديمقراطياً مرتبطاً بالمصالح العيانية لمختلف الفئات الاجتماعية، وأرى من ثم أن المشكلة الكوردية في سورية أو في العراق جزء من المسألة الديمقراطية. فبقدر ما تعمل الأكثرية العربية على حل "مسألة الأقليات القومية" حلاً ديمقراطياً، وعلى حل "مسألة الأقليات الدينية والمذهبية" حلاً علمانياً يتقدم مشروعها الوحدوي، إذا كان لا يزال هناك مشروع من هذا النوع حقاً. وأميل إلى القول إن المشروع الوحدوي العربي مرتبط أوثق ارتباط وأشده بحل مسألة الأقليات بوجه عام؛ ومسألة الجماعات الإثنية بوجه خاص، على نحو يمكِّن هذه الأخيرة من التمتع بجميع حقوقها المدنية والسياسية والثقافية، بما في ذلك حق الانفصال، وقد شبهه لينين بحق الطلاق الذي لا يعني وجوب الطلاق. إن حق الانفصال الذي يجب الاعتراف به اعترافاً مبدئياً ونهائياً هو حرية الاندماج، على ألا يفهم من الاندماج أي معنى من معاني الصهر والتذويب والتمثل وما إليها. الاندماج الوطني هو بالأحرى الوحدة الوطنية مفهومة فهماً صحيحاً على أنها وحدة التعدد والاختلاف. القاعدة الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الحياة الاجتماعية والسياسية هي الحرية؛ وفي ضوء هذه القاعدة أو هذا المبدأ يجب النظر إلى المسألة القومية العربية أو الكوردية أو غيرها.
إذاً، المشكلة الكوردية أو القضية الكوردية في سورية جزء من المسألة الديمقراطية، وقضية أساسية من قضايا الدولة الوطنية الحديثة، ولذلك لا أرى فيها، اليوم، سوى قضية وطنية عامة لا تخص المواطنين الكورد وحدهم، بل تخص جميع المواطنين السوريين كغيرها من القضايا الوطنية، كما أفترض، وأنا أعلم أن الكثرة الكاثرة من المواطنين السوريين عرباً وأكراداً لا يرونها كذلك، لأسباب تتعلق ببنية الوعي الاجتماعي وتأثيرات الأيديولوجيات الكبرى فيه، ولا سيما الأيديولوجية القومية. والرهان التاريخي، في نظري معقود على تقدم الوعي الاجتماعي وارتقائة من الجزئية والحصرية إلى الكلية والعمومية، أي من وعي ديني ومذهبي ومللي وعشائري وجهوي وأقوامي إلى وعي وطني ديمقراطي مفتوح على أفق إنساني؛ ولتغيير واقع ما لا بد من دحض وعيه أولاً، وإعادة بنائة على الحداثة، ولا سيما قيم الشغل والإنتاج الاجتماعي الذي يحدد سائر أشكال الوجود الاجتماعي، في نهاية المطاف، وعلى مبدأ المواطنة وحرية الفرد وحقوق الإنسان وسيادة القانون وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وعلى مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون.
وقد أشرت من قبل إلى أن هذه المشكلة مشكلة محلية ذات بعد إقليمي يتعلق بالجغرافية السياسية لعدة دول "ذات سيادة" لا تقوم أي منها، حتى يومنا، على مبدأ سيادة الشعب، ولذلك يتعرض مواطنوها، ولا سيما الأكراد منهم، لضروب متفاوتة من التمييز والاضطهاد والعسف. وما زلت أعتقد أن التحولات الديمقراطية في هذه الدول لا بد أن تحمل حلولاً مناسبة لهذه المشكلة تقررها شعوب هذه البلدان، التي ترجع معظم مشكلاتها الداخلية إلى نقص اندماجها الوطني، وافتقار كل منها إلى حقل سياسي مشترك بين جميع مواطنيها وجميع فئاتها الاجتماعية، ولا تزال السياسة تمارس فيها على أنها حرب، أو نزاع على السلطة من أجل "الغنيمة والعقيدة والعشيرة"، وعلى "ذروة المشروعية العليا"، الدينية أو القومية أو الثورية التي تسوغ ذلك. ولهذا كانت القوة، ولا تزال، هي التي تقرر الحقوق المدنية والسياسية وتحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية، إذ "لكلٍّ من الحق بقدر ما له من القوة". فلا بد، وهذه الحال، من انتقال مبدأ العلاقات الاجتماعية والسياسية من سياسة القوة إلى قوة السياسة. والسياسة بالتعريف هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية مدنية واعية وهادفة تعبر عما هو مشترك بين جميع مواطني الدولة وفئاتها الاجتماعية، وعما هو مشترك بين الدول والشعوب والأمم. فهي، من ثم، جملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات ملقاة على عاتق مواطن حر هو عضو في الدولة السياسية، والعضوية في الدولة تعني المشاركة والمسؤولية. ولا تنفصل السياسة عن مبدأ سيادة القانون على الصعيدين المحلي والدولي.
ولعل للمشكلة الكوردية في سورية سمات خاصة تتعلق بانتشارهم على مساحة واسعة من سورية السياسية، وتتركز كتلتهم الأساسية في ثلاث محافظات هي الحسكة وحلب ودمشق، ولا يؤلفون في كل منها سوى نسبة قليلة من عدد السكان، وليس هناك إحصاءات دقيقة يعتدُّ بها في هذا المجال. ومنذ قيام الجمهورية السورية كانوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والسياسي السوري، ولم يكونوا يتمايزون من غيرهم من المواطنين السوريين، ولم تكن هناك أي سياسات تمييزية إزاءهم، حتى أواخر خمسينات القرن الماضي، حين صعد المد القومي العربي. وقبل تأسيس أول حزب سياسي كردي (الحزب الديمقراطي الكردي) كانت نخبتهم الثقافية والسياسية تتوزع في الأحزاب السياسية السورية، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي، وتسلم عدد منهم مناصب عليا في الجيش والشرطة والإدارة العامة، بما فيها رئاسة الجمهورية من دون أن يثير ذلك أي حساسية "قومية". وكان لمثقفيهم ولا يزال لهم أثر مهم في الثقافة الوطنية، وليس بوسعنا أن نعدهم سوى مثقفين سوريين. وأعتقد أن تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي كان تعبيراً مبكراً عن بدايات تشظي الحقل السياسي الوطني الذي بلغ ذروته أواخر سبعينات القرن الماضي، وقد عبرت عن ذلك الانشقاقات التي أصابت جميع الأحزاب السياسية في سورية، وكان أولها انشقاق حزب البعث العربي الاشتراكي. ولذلك أرى في هذه المشكلة مظهراً من مظاهر تشظي الحقل السياسي الوطني الذي صارت معه الدولة، دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد، دولة جزء من المجتمع، لا دولة المجتمع. ولا بد هنا من الإشارة إلى ثلاث محطات أساسية فاقمت المشكلة الكردية: أولها الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي حرم بموجبه عدد كبير من المواطنين الأكراد من حق الجنسية، وثانيتها سياسة التعريب و "الحزام العربي" التي انتهجت منذ أن استولى حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة، والمحطة الثالثة هي تحول الدولة تدريجياً إلى نوع من "دولة تسلطية" وغياب مبدأ المواطنة وسيادة القانون وسيادة الشعب، وإدماج جميع مجالات الحياة الاجتماعية في مجال واحد هو مجال السلطة ذات الطابع الأمني الخالص. تضاف إلى ذلك تأثيرات الحرب المفتوحة التي شنت على الأكراد في كل من تركيا والعراق، ولا تزال تداعياتها مستمرة إلى يومنا، فكان من البديهي أن يتعاطف الكورد السوريون مع بني قومهم، وأن تتسرب بعض مفردات الخطاب السياسي، في تينك الدولتين، إلى الخطاب السياسي للأحزاب الكردية التي تشظت هي الأخرى، في مناخ التشظي والانقسام، حتى بلغ عددها نحو دزينة من الأحزاب. وفي اعتقادي أن الظاهرة الأبرز والأهم في الحياة السياسية السورية هي ظاهرة التشظي، ولم نولها بعد الأهمية التي تستحق. وقد كنت، ولا أزال، أميل إلى تشبيهها بنظيرتها في العصور المملوكية العثمانية. وأعتقد أن ما يسميه القوميون العرب تراثهم القومي والحضاري هو، في معظمه، تراث تلك العصور. منطق الانحطاط واحد في جميع العصور.
ولا بد أن يتفهم المرء جميع محاولات توكيد الذات في أوساط الكورد إزاء "القومية" الأكبر في البلاد، وتفهم جميع مظاهر توثيق اللحمة الداخلية، اللغوية والثقافية، لإنتاج "هوية كوردية"، هي بالأحرى أزمة هوية أو عقدة هوية، لدى الكورد والعرب على السواء، وإحدى تجليات الأزمة الاجتماعية السياسية العامة التي أنتجت الشمولية والاستبداد والتعصب والانغلاق؛ لأن الهوية الفعلية الحية لجماعة من الجماعات، أو لأمة من الأمم، هي ما تنتجه هذه الجماعة أو هذه الأمة على الصعيدين المادي والروحي. ولا بد من إيلاء هذه المسالة، مسألة الهوية، الأهمية التي تستحق، في سياق تطلعنا جميعاً، عرباً وأكراداً، إلى وطن حر ودولة حق وقانون، وفي سياق تطلعنا المشترك إلى إنتاج هوية وطنية قوامها التعدد والاختلاف اللذان يثريان حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وينميان العناصر الديمقراطية فيها.
* أتفق معك حين تتحدث عن الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وتسوية تاريخية يربح فيها الجميع. ما هي أسس هذا العقد الاجتماعي الجديد، وما هي مقوماته؟ وما مدى إمكانية تحقيق هذه التسوية التاريخية؟
**العقد الاجتماعي، هو بالأحرى تجريد نظري يحيل على واقع، أو مفهمة بعدية لواقع يتوفر على نوع من الاندماج الوطني، أو قراءة استباقية أو استشرافية لممكنات واقع يتوفر على إمكانية الاندماج، أي إمكانية بناء مجتمع مدني ودولة وطنية. وقد أوضحت في كتابي الأخير: "المجتمع المدني هوية الاختلاف" أن الاختلاف هو ما يفرض الحاجة إلى العقد الاجتماعي، أو ما يجعل العقد الاجتماعي ضرورياً، والتماثل في الإنسانية والمواطنة هو ما يجعل العقد الاجتماعي ممكناً. ومن ثم؛ فإن جدل التماثل والاختلاف، الذي يحكم عملية بناء المجتمع المدني والدولة الوطنية، هو مضمون العقد الاجتماعي. ولكي يكون الكلام أكثر وضوحاً، أدعو إلى إنتاج وطنية سورية جديدة قوامها تحرير المجتمع من النظام الشمولي، وإطلاق فاعليته الإنتاجية في جميع مجالات الحياة، وإلى استقلال كل من مجالات الحياة الاجتماعية: الاقتصادية والسياسية والثقافية استقلالاً نسبياً، لأن هذا الاستقلال هو الضمانة الموضوعية للحقوق المدنية والحريات الأساسية، وهو الأساس الموضوعي الذي يقوم عليه مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات، وإلى إعادة بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية على مبدأ المواطنة، لا على مبدأ "العصبية" كما هي الحال اليوم.
وأعني بالتسوية التاريخية: توافق جميع الفئات الاجتماعية وتمثيلاتها الثقافية والسياسية على نظام عام يعبر عنه دستور جديد للبلاد، يعيد الاعتبار لعمومية الدولة ومبدأ المواطنة وسيادة القانون وتساوي جميع المواطنين أمامه بلا استثناء ولا تمييز. فقد كنت، ولا أزال، أرى في الاستبداد إهانة للكرامة البشرية، وأن الاستبداد يقبع في أساس جميع مشكلاتنا. وقد بينت في أكثر من مكان أن الاحتكار، "احتكار السلطة والثروة والقوة" (بتعبير خلدون حسن النقيب)، واحتكار الحقيقة واحتكار "الوطنية"، هو أساس الاستبداد. ولذلك لا أنظر إلى الاستبداد على أنه مجرد استبداد سياسي؛ الاستبداد السياسي هو النتيجة الأخيرة أو المحصلة النهائية لجميع الاحتكارات التي أشرت إليها. هذه الاحتكارات هي التي جعلت من جميع مجالات الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً: هو مجال السلطة. وقلصت مجال الدولة، أي مجال الكلية والعمومية، حتى تطابق مع مجال السلطة، مجال الجزئية الحصرية.
وأرى، من ثم، أن هذه التسوية التاريخية ممكنة، وأن عناصرها تتراكم في ثنايا حياتنا العامة. وسورية اليوم على مفترق، فإما أن تذهب في هذا الاتجاه الآمن الذي يربح فيه الجميع، وإما أن تذهب إلى الكارثة. وعلينا جميعاً أن نعمل على تلافي الكارثة. والمسألة، كما ترى، تتجاوز القضية الكردية إلى القضية الوطنية. وقد كنت، ولا أزال، أدعو إلى إعادة تعريف الوطنية، وتحرير مفهومها من طابعه الأيديولوجي والقيمي الذي لابسه منذ بدايات المرحلة الكولونيالية، وعززه خطاب "حركة التحرر الوطني" الذي حل جميع المشكلات في مقولة الصراع مع الإمبريالية والصهيونية والرجعية.
في ضوء الرؤية الوطنية الديمقراطية، ونسق المفاهيم الذي يؤسسها، أرى أن قضية المرأة وقضية الأقليات من أهم روائز الوعي الوطني الديمقراطي.
العقد الاجتماعي هو عقد طوعي بين أفراد أحرار أعتقهم العمل من روابطهم الأولية، وباتوا يتطلعون إلى أن يصيروا مواطنين متساوين أمام القانون في دولة سياسية، هي دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، وهي، من ثم، وطنهم السياسي وموطن اعتزازهم الأدبي وتجلي ماهيتهم. والجدل المنشئ لهذا العقد هو التعارض بين الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته الفردية وأهوائه ورغباته ونزواته، والمواطن الذي يتطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة، ويتعلق بقيم الخير والحق والجمال. وهو، في واقعه الفعلي، انتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، أي من حالة التبعية إلى الحرية. ويبدو لي أن الفكر السياسي، عندنا، لا يزال يجهل، أو يتجاهل، العلاقة الضرورية، المنطقية والتاريخية، بين الوطن والدولة السياسية.
* تحدثت في كتابك "حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية" عن ثلاثة أبعاد للهوية: علاقة الذات بذاتها، وعلاقة الذات بالموضوع، وعلاقة الـ أنا بالآخر. سأتوقف عند البعد الثالث لأسقطه على جماعة إثنية مهيمِنة "العرب"، وأخرى مهيمَن عليها "الكرد". فإذا كانت الهوية تُبنى على جدلية التماثل والاختلاف؛ أفلا ترى أن علاقة الهيمنة تشوه كلتا الثقافتين؟ والسؤال: ما هي السبل التي يمكن أن تؤدي إلى تأسيس محيط مشترك، يحتضن التنوع الثقافي بعيداً عن الممارسات الإلغائية القائمة على القسر والإكراه، كالتعريب مثلاً؟
** أجل للهوية، كما أعتقد، ثلاثة أبعاد: أولها علاقة الذات بذاتها، أي كيف تعرِّف جماعة ما نفسها؟ وكيف تعبِّر عن ذلك؟ وكيف تعي تاريخها؟ وكيف تنظر إلى تراثها؟ وكيف تحدد موقعها في العالم وفي تاريخه؟ والثاني هو علاقة الذات بالموضوع؛ أي علاقتها بواقعها وعالمها الذي يفترض أنه من إنتاجها، ودرجة الاستلاب الذي تعيشه؛ سواء في الطبيعة، أو في الدين، أو في "صنمية السلعة"، أو في "صنمية السلطة"؛ أي في التبعية والاستبداد السياسي، ونمط إنتاجها لحياتها في جميع المجالات. والثالث هو علاقتها بالآخر، وهذه العلاقة هي محصلة العلاقتين السابقتين وتتويجهما، وإذا أردنا أن نحكم على تقدم جماعة ما، أو تأخرها، فإنه يكفي أن ننظر في هذا البعد الثالث، فهو ينطوي بداهة على البعدين الآخرين.
الهوية بالتعريف هي وعي الذات، وقد أشرت إلى علاقة الوعي بالوجود، أو علاقة الذات بالموضوع الذي هو ذات وحياة، وليس صلصالاً طيِّعاً تشكِّله الذات كما ترغب أو تريد، فلكي تطيعنا الطبيعة يجب أن نطيعها، ولكي يطيعنا الواقع يجب أن نطيعه. هذا المبدأ لا ينطبق على التقانة فقط، بل على سائر أشكال العمل البشري، ولا سيما السياسي منه، وما التقانة سوى دمج العلم بالعمل. وما من شك في أن لوعي الذات أثراً مهماً، بل حاسماً، في العمل والإنتاج الاجتماعي. البشر ينتجون ذواتهم في العالم وفي التاريخ، لا سلعاً للاستهلاك النهائي أو للتبادل فحسب، بل ثقافة وقيماً أخلاقية وعلاقات وبنى وتنظيمات اجتماعية وسياسية، أهمها الدولة، ثم يستعيدون موضوعية العالم في ذواتهم، أي في وعيهم، مرة تلو مرة،. ولذلك صرت أكثر ميلاً إلى القول: إن هوية جماعة ما، أو أمة ما، هي ما تنتجه هذه الأمة أو تلك الجماعة على الصعيدين المادي والروحي. هذا التحديد يضع الفرق بين هوية خاوية وميتة وأخرى حية، بين هوية ناجزة وثابته أو ساكنة، وأخرى تبنى كل يوم ولا تكتمل، لأنها عملية تاريخية، أي جدلية، مستمرة.
كل فرد على الإطلاق هو أنا لذاته وآخر لغيره، وكذلك كل جماعة وكل أمة وكل شعب وكل دولة. ليس هناك أنا، ولا يمكن أن يكون، بغير الآخر؛ الآخر شرط وجود الـ أنا، الآخرية والغيرية شرط وجود الأنَوية. الهوية الفعلية هي وحدة الأنا والآخر الجدلية التي يغدو معها الآخر هو أنا، والأنا هو الآخر؛ ولذلك أرى أن الديمقراطية هي حرية الآخر أولاً. ذلكم هو منطق العلاقة. كل علاقة بين شخصين أو بين عدة أشخاص، وكل علاقة بين جماعتين أو أمتين أو شعبين، أو بين عدة جماعات وشعوب وأمم، تؤدي دوماً إلى تغير ما في طرفيها أو في أطرافها جميعاً، وذلك هو منطق المجموعات الحرة المتشكلَّة في الرياضيات، وهو، في اعتقادي، منطق المجتمع المدني.
الهيمنة والقهر والاستبداد إهانة للكرامة الإنسانية، وإهانة للكرامة الوطنية، سواءٌ في ذلك: المهيمنون والمهيمن عليهم، المستبدون والمستبد بهم. والعلاقات القائمة على هذه الأسس محكومة بجدلية القهر، وجدلية الظلم، إذ الظالم هو المظلوم، والسيد هو العبد؛ فمن يظلم الآخرين إنما يظلم ماهيته الإنسانية ذاتها، ويقوض شروط حريته واستقلاله وسعادته، ويقتل النوازع الإنسانية: نوازع الحرية والمساواة والعدالة، وقيم الحق والخير والجمال في ذاته، قبل أن يقتلها في الآخر. المهيمن والمهيمن عليه مريضان كلاهما، الأول بعقدة التفوق والاستعلاء والثاني بعقدة الدونية والضعف، لذلك ينتجان معاً ثقافة مشوهة تخطئ في كل مرة الجذر الروحي للثقافة، أعني الروح الإنساني، فتعيد إنتاج التعصب والتعصب المضاد، والعنف والعنف المضاد، والتعصب والعنف صنوان يعبران كلاهما عن انحطاط روحي وأخلاقي وثقافي وسياسي. وتخطئ في كل مرة أيضاً الجذر الذي يتغذى منه الإبداع الثقافي: أي الحرية. المهيمن والهيمن عليه معاً لا يعرفان الحرية، الأول لأنه مستبد، والثاني لأنه مشغول بالتحرر من الاستبداد، لا بالحرية. وشتان بين الحرية والتحرر. وقبل أن نستنبت الحرية، وننميها في الوعي والضمير، لن يعدو تحررنا من الاستبداد كونه انتقالاً من استبداد إلى استبداد، ومن تبعية إلى تبعية ومن نير إلى نير. ولا أغالي إذا قلت: إن قضية الحرية كانت ولا تزال غائبة عن الوعي الاجتماعي بوجه عام، وعن الوعي السياسي بوجه خاص. والحر بالتعريف هو من لا يستعبد غيره ومن لا يضطهد غيره ومن لا يهيمن على غيره، لأنه لا يقبل أن يكون عبداً أو تابعاً أو مضطهداً. وقبل أن يصير السوريون، العرب والأكراد وغيرهم من المواطنين، أحراراً بهذا المعنى، لا يمكن أن تقوم لهم دولة وطنية، ولا يمكن أن يرتقوا من مستوى الجماعات المغلقة المتحاجزة إلى مستوى الشعب. ولن يكون العرب السوريون أحراراً ما لم يكن مواطنوهم الكورد وغيرهم من أبناء "الأقليات" كذلك.
وإذا كان ثم صواب ما في العلاقة المفترضة بين الوعي والوجود، بين المعرفة والعمل، بين الفكر والواقع، فإننا في أمس الحاجة إلى وعي نقدي، أو فكر نقدي، يعيد بناء وعينا على مبدأ الإنسان ومطلب الحرية، وعلى الاعتراف المبدئي والنهائي بأفرادية الواقع ومعقولية العالم وتعدديته واختلاف مكوناته؛ أي إننا في أمس الحاجة إلى نوع من "عصر أنوار" يعتمد على الإنجاز الإنساني، ويسهم في المجهود العالمي لترقيته وتجاوزه. وبكلمات أخرى: إننا في أمس الحاجة إلى وعي كوني وتاريخي عصري وحديث وديمقراطي، بكل ما تشتمل عليه الديمقراطية من عناصر إنسية وعقلانية وعلمانية. من دون ذلك لا أرى إمكانية جدية لإنتاج مناخ تعايشي يغتني بثروة التنوع والاختلاف، ويقيم الحد على الممارسات الإقصائية والإلغائية، التي هي نسق مولد للعسف والعنف والإرهاب.
* تقول: "إن الدولة القومية تتوفر على إمكانات ديمقراطية، بحكم طبيعتها، شريطة أن تصون الأمة حقوق الأقليات القومية وفي مقدمها الاستقلال الذاتي وحق الانفصال اللذين يعنيان في الطرف المقابل حرية التعايش والاندماج". ثم تكمل قائلاً: "ولعل (تعريب) الثقافات الأقوامية وتعميمها هو ضمانة تجاوزها لذاتها وإزالة صفة الأقوامية عنها". لنقل إن الأمر قد التبس علي؛ فأنت تؤيد حقوق الأقليات القومية، بما في ذلك حق الانفصال، من جهة؛ وتدعو إلى تعريب الثقافات الأقوامية، من جهة أخرى. هل ترى التناقض في طرفي المعادلة؟
** أشكرك على هذا السؤال، فقد عدت إلى النص الذي استقيتَ منه سؤالك، وهو نص محاضرة ألقيتها في المركز الثقافي بحمص، منذ نحو خمسة عشر عاماً، فلم أجد في روح النص ما يشي بأي معنى من معاني "تعريب الأقليات" أو تعريب ثقافاتها، سوى معنى ترجمة هذه الثقافات إلى العربية، لكي تكون جزءاً من الثقافة العربية، أسوة بما يترجم من اللغات الأجنبية. وأنا وحدي أتحمل مسؤولية الالتباس الذي توحي به كلمة "تعريب". فأنا لست مع الحقوق الثقافية للكورد أو لغيرهم من الجماعات اللغوية والثقافية والإثنية فقط، بل أرى أن على العرب أن يهتموا بهذه الثقافات اهتمامهم بثقافتهم، وأن يوفروا لها جميع شروط الحرية والاستقلال والنمو والتقدم والازهار، لإنتاج ثقافة وطنية توحِّد ما يمكن أن تفرقه "السياسة" والأيديولوجيات ما قبل الوطنية. وقد جاء في ذلك النص ما يلي: "الهوية جملة من العلاقات والروابط العقلية أي الضرورية والواقعية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية والإنسانية، نسجها تطور تاريخي محدد في الزمان والمكان، تذهب في ثلاثة أبعاد هي: علاقة الذات بذاتها، وتنطوي على النرجسية والاستعلاء وعلى الشعور بالتمايز والتفوق ويقابلها عقدة الاضطهاد والشعور بالدونية. وعلاقة الذات بالموضوع، موضوع العمل والمعرفة أي بالعالم الطبيعي والاجتماعي، وتنطوي على الاستلاب وتقابله الحرية، وعلاقة الأنا بالآخر وتنطوي على التبعية والانقياد والمحاكاة والاقتداء... ويقابلها الاستقلال والذاتية. وهي في هذه الحيثيات جميعها وحدة الوعي والوجود، الفكر والواقع، والتماثل والاختلاف، والوحدة والتعدد، المؤسسة جميعها على مبدأ النفي حامل فكرة التاريخ ومفهوم التقدم".
و "من أهم المسائل المتعلقة بإشكالية الهوية مسألة الانتماء. ولاسيما الانتماء القومي (= الوطني)؛ بوصفه الانتماء الأحدث في مسار التطور التاريخي على الصعيد العالمي، والذي يشكل ضرباَ من قطيعة مع الانتماءات ما قبل القومية (أو ما قبل الوطنية)، من دون أن يلغيها أو يحذفها. فالقطيعة، هنا، هي بالأحرى عملية نفي ديالكتية تعيد تنظيم العلاقات بين مختلف الانتماءات في دائرة الانتماء القومي، وتلك الانتماءات الواقعية والضرورية هي قوام الانتماء القومي، وإلا كان الانتماء القومي مساحة فارغة أو هوة تتهاوى فيها العناصر المكونة للأمة. إن مفهوم الهوية في الإشكالية التقليدية، بوصفه نافياً للخصوصية والفردية، ينتج مفهوماً تقليدياً للانتماء ينفي سائر الانتماءات الواقعية والضرورية. فمفهوم الانتماء وثيق الصلة بمفهوم الهوية، لأنه تعبيره الواقعي وتجسيده العياني.
ولذا نراه يكشف بجلاء عن جدلية التماثل والاختلاف والوحدة والتعدد. فنحن، مثلاً، متماثلون في الكون البشري والماهية الإنسانية تماثلاً تاماً يقيم هويتنا الحقيقية التي لا تستطيع أن تنفيها أية هوية أخرى، ومتماثلون أيضاً في كون كل واحد منا هو أنا وآخر في الوقت نفسه، ومتماثلون في انتمائنا .. إلى وطننا الصغير سورية... لكن كل واحد منا مختلف عن الآخرين في سلسلة من الانتماءات الأخرى: الانتماء إلى الأسرة والعائلة الممتدة، أو العشيرة والحي، أو القرية والمدينة والمنطقة، والدين والمذهب والحزب السياسي والنقابة والمهنة والفئة الاجتماعية والطبقة[1] الخ. وكل هذه الانتماءات، كما تلاحظون، واقعية وضرورية؛ فهل ينفي بعضها بعضاً بالضرورة؟ أو هل يمكن أن ينفي أحدها ما عداه؟ إن مفهوم الانتماء، هنا، ينبثق عن مفهوم الاختلاف والمغايرة الذي يجعل من الهوية هويات أو جمع هويات، غير حسابي بالطبع، وصولاً إلى هوية الهويات، التي هي نتاج عمليات حذف وتقليص عقلية لجميع الصفات والتعيينات، سوى صفة بعينها: هي محور الهوية، لا قوامها. لأن قوام الهوية هو التعدد والاختلاف والتعارض... وهذا الحذف وذلك التقليص ضروريان، لأنَّ اللغة، أية لغة، لا تعبِّر إلا عن الكلي. فاللغة تنتمي إلى الفكر، وإلى الكلي، وهذا الانتماء هو أصل التوتر والتنابذ بين الفكر والواقع. فنحن نعبر دائماَ عن المفرد المعين بالكلي. وهذه المسألة مؤكدة بقوة في اللغة بوجه عام، وفي لغتنا العربية بوجه خاص. إذ الصفة لا تستنفد الموصوف، والخبر لا يستنفد المبتدأ، ولذلك تتعدد الصفات والأخبار والأحوال أيضاً في النحو العربي: منطق اللغة العربية. وبهذا المعنى تقترب مقولة الانتماء من مفهوم الانتماء الرياضي إلى مالا نهاية له من المجموعات الحرة التشكُّلية، وتقترب كذلك العلاقة بين الانتماءات المختلفة من علاقة الاحتواء الرياضية، والتعبير الرياضي عن مفهوم الاستغراق المنطقي. فالانتماء إلى حزب سياسي محتوى، بالضرورة، في الانتماء القومي. والانتماء القومي يحتوي على سائر الانتماءات المختلفة للأفراد والجماعات والفئات والطبقات. فما وجه التناقض مثلاً في كون أحدنا قومياً ديمقراطياً ووطنياً سورياً ومسلماً، أو مسيحياً، مؤمناً وعلمانياً وعضواً في هذا الحزب أو تلك النقابة... الخ؟
ولكن للمسألة وجهٌ آخر عندما ننتقل من رحاب المجتمع المدني إلى المجال السياسي، ولا سيما إلى مجال الدولة، بوصفها تعبيراً عن الشأن العام وعن الكل الاجتماعي، وبوصفها التعبير السياسي والحقوقي عن المجتمع المدني، وعنوان وحدته واندماجه القومي والاجتماعي، أو بوصفها الوطن السياسي لجميع المواطنين (بقدر ما تكون دولة حق وقانون ). أي بوصفها نوعاً من الارتقاء من الفردي والخاص إلى العام، ... هذا الارتقاء يضع الدولة في مصاف الكليات. فهل يعقل مع ذلك أن تكون من النمط العشائري أو المذهبي أو الديني أو الطبقي أو النخبوي ( الأوليغارشي )، وتحافظ على كونها الشأن العام وميدان الحق والقانون؟"[2]
لقد حاولت، منذ ذلك الحين، أن أعطي مفاهيم الأمة والقومية والدولة القومية معاني جديدة، غير المعاني التي درج عليها الفكر القومي التقليدي والرومانسي، مستفيداً، في ذلك، من فكر النهضة والتنوير في الفكر الغربي، ومن كتابات المفكر الراحل الياس مرقص خاصة. فمفهوم الأمة يحيل عندي على المجتمع المدني، لا على أصل عرقي لهذه الجماعة أو تلك. وحين أصف الأمة بأنها عربية، فذلك على وجه التغليب، لا على وجه الحصر والقصر والإلغاء، أو الإقصاء والاستبعاد. كما أن مفهوم الأمة يتجلى سياسياً وحقوقياً في الدولة، لذلك قد يستهجن أصدقائي من الكورد حسباني إياهم في عداد الأمة، بوصفهم أعضاء كاملي العضوية في المجتمع المدني والدولة السياسية. ولذلك صرت ميالاً إلى استعمال مفهوم الدولة الوطنية، بدلاً من مفهوم الدولة القومية، وعلى نحو يطابق مفهوم الدولة القومية. والقومية عندي، كالوطنية، صفة للدولة وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها. الدولة لا تبدو، ولا يجوز أن تبدو، لمواطينها دولة قومية، بل دولة حق وقانون فحسب. أما لغير مواطنيها فتبدو دولة قومية، ولا تستطيع أن تبدو لهؤلاء إلا بصفتها هذه، أي دولة قومية. وهذه المعاني غير مقبولة من سائر القوميين حتى يومنا. وهذا يحيل على صعوبة زحزحة المفاهيم التقليدية، ولا سيما حين لا تتاح لذلك فرص مناسبة، في ظل احتكار الثقافة والسياسة ووسائل الإعلام، كما هي الحال عندنا.
أجل، تتوفر الدولة القومية، بالمعنى الذي أشرت إليه، على إمكانات ديمقراطية، بحكم طبيعتها، أي بحكم كونها تعبيراً عن الكلية الاجتماعية وتحديداً ذاتياً للشعب، وبحكم كون الكلية الاجتماعية قائمة على التعدد والاختلاف والتعارض، فلولا التعدد والاختلاف وتعارض المصالح لما كان هناك حاجة إلى الديمقراطية. الديمقراطية نظام عام، ونمط تفكير، ونمط حياة، تنتجه الأمة المعنية، أو المجتمع المعني، وليس عنصراً برانياً يزرع في جسم الأمة أو المجتمع من الخارج، وليست مجرد انتخابات وتمثيل برلماني، قد يكون تمثيل عشائر وأديان ومذاهب وإثنيات. وفي هذا السياق لا بد من تمييز القومية من "الحركة القومية"؛ أي من الأحزاب السياسيية التي تتبنى أيديولوجية قومية، كحزب البعث العربي الاشتراكي أو الحركة الناصرية، على سبيل المثال. ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن في كل نزعة قومية عنصراً استبدادياً وفاشياً، وإلا كيف نفسر النازية والفاشية وغيرها من تجارب "الاشتراكية القومية"؟ القومية، بالمعنى الدارج، تنوس بين هذين الحدين: الديمقراطية والاستبداد. والسيرورة الديمقراطية تتوقف على جملة من العوامل، لعل من أهمها إعادة بناء مفاهيم الأمة والقومية والدولة القومية على أسس جديدة، غير تلك التي بني عليها "الفكر القومي" التقليدي والرومانسي. وهذا العامل الثقافي لا يقل أهمية، في نظري، عن العوامل المادية الأخرى. وفي هذا السياق يبدو لي ضرورياً إعادة تعريف مشروع الحداثة، وإعادة إنتاجه، في ضوء التقدم الحاصل في جميع الميادين. وهذا التقدم محرز عام لبني الإنسان.
* بدا لي طرحك حول الأكثرية والأقلية شبيهاً بعقيدة أنطون سعادة، وخصوصاً حين تتحدث عن "اندماج قومي". ماذا تقصد بالاندماج القومي؟ وكيف يمكن لهذا الاندماج أن يرتبط بالحرية؟
** أعتقد أن المفكر الراحل أنطون سعادة أول من تحدث، من العرب المعاصرين، عن القومية الاجتماعية، أي عن العلاقة بين الأمة السورية والمجتمع المدني العلماني السوري، وأول من وضع العلمانية في صلب الرؤية السياسية، فبدت العلمانية في فكره مبدأً من مبادئ الاجتماع الحديث، لا لبس فيه ولا مداورة، وإن كان للمرء أن يأخذ عليه موقفه غير المتوازن من الديانات التوحيدية، ومن مسألة الدين بوجه عام. بيد أن الفكرة القومية عنده تحيل أيضاً على الأصل، أي على العرق السوري، الفينيقي، لا على الهوية التاريخية، بما هي هوية الاختلاف في وجود اجتماعي متعين في الزمان والمكان. ولا أدري إذا ما كان موقفه الاجتماعي القومي متسقاً إزاء السوريين وغير السوريين. فالكورد مثلاً ليسوا سوريين، وفق مصفوفته النظرية. ومن ثم فإن رؤيتي للاندماج القومي أو الوطني ولا فرق، لا تمتُّ بصلةٍ إلى رؤية أنطون سعادة، فأنا مدين لياسين الحافظ والياس مرقص وعبد الله العروي، وغيرهم من أعلام الفكر النقدي بصورة أساسية.
أعني بالاندماج الوطني أو القومي جملة متآخذة ومتكاملة من العمليات أو السيرورات التاريخية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية ترقى بالمجتمع من حالة التشظي والتناثر والانقسام والتحاجز إلى الوحدة، وحدة الاختلاف والتعدد والتعارض. وفي أساس هذه العمليات جميعاً عملية الإنتاج الاجتماعي، وارتقاء العمل البشري إلى عمل صناعي يدمج العلم بالعمل، ويقوم فيه العنصر الذهني بدور متزايد باطِّراد. والإنتاج الثقافي مرتبط أوثق ارتباط وأشده بالإنتاج الاجتماعي/ الاقتصادي، ويؤسس لبزوغ مجال مشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته الاجتماعية، على اختلاف مصالحهم ومصالحها، لا يلبث أن يتحول إلى مجال سياسي مشترك تعبر عنه الدولة الوطنية التي تقوم على مبدأ المواطنة العلماني، أي على تساوي المواطنين جميعاً أمام القانون، وعلى مبدأ سيادة القانون العام وسيادة الشعب. الاندماج القومي هو ولادة أمة حديثة، لا على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، بل على أساس المواطنة والمساواة بين أفراد مختلفي المشارب والانتماءات والمنازع يوحدهم العمل وينتمون جميعاً إلى الوطن/الدولة، مساواة سياسية أمام القانون، وعلى أساس المشاركة السياسية. ومن ثم فإن هنالك رابطة وثيقة بين الاندماج القومي والحرية، لأن الاندماج ليس عملية قسرية تفرضها جماعة أو فئة اجتماعية على أخرى، بل حاجة يولدها نمط الحياة الحديثة لدى جميع الأفراد وجميع الفئات الاجتماعية، أو الطبقات الاجتماعية التي تحلُّ شيئاً فشيئاً محلَّ البنى التقليدية ما قبل الوطنية، فينقسم المجتمع أفقياً إلى طبقات وفئات تضمر فيها التحديدات الدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية شيئاً فشيئاً، وقد تتلاشى، حين تتحول كل منها من طبقة بذاتها إلى طبقة لذاتها، ويغدو بوسعها إنتاج تمثيلاتها النقابية والسياسية والفكرية أيضاً. وبخلاف الانقسامات العمودية: الدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية، تولِّد الانقسامات الأفقية، أي الطبقية أكثرية وأقلية سياسيتين يمكن لكل منهما أن تتحول إلى نقيضها. واستطراداً تبدو لي المراهنة على العنصر الديموغرافي في الصراع العربي الإسرائيلي غير ذات معنى، ما لم تتحدَّث بنى المجتمع الفلسطيني، فتغدو علمانية وديمقراطية.
* الاعتقاد السائد، فيما يخص مفهوم الوحدة العربية، هو أن القوميات غير العربية تعتبر عوائق في طريق هذه الوحدة. وكان ميشيل عفلق قد كتب صراحةً أن الأكراد والبربر يعيقون قيام الوحدة العربية. فما هو نصيب هذا الاعتقاد من الحقيقة؟
لنقرأ بعض الوقائع: في عام 1957 تأسس أول حزب سياسي كردي في سورية جراء توجس الكورد السوريين من "المد القومي العربي" الذي شهدته خمسينات القرن الماضي، وهو في اعتقادي توجس مشروع، بحكم ما كانت عليه الحركة القومية العربية وما آلت إليه، ويخطئ من ينفي علاقة المآل بالمبتدى. وفي عام 1958، حين قامت الجمهورية العربية المتحدة، ازداد توجس الكورد في سورية والعراق. ويقال إنّ وفداً من الكورد ذهب إلى القاهرة، إبان محادثات الوحدة بين مصر وسورية، لتلمس ما سيكون عليه وضع الأكراد بعد قيام الوحدة، وإن عبد الناصر، الذي لم يكن يثق بالبعثيين، أشار إلى أن هؤلاء لا يمكن أن يعترفوا للأكراد بأي حق. وأنشأ في القاهرة إذاعة خاصة تبث باللغة الكوردية اعترافاً منه بحقوقهم الثقافية. وفي العام نفسه، برز توجس الموارنة في لبنان من وحدة سورية ومصر. مما يدل على أن الأقليات الدينية والقومية، على السواء، كانت، ولا تزال، تتوجس من المشروع الوحدوي العربي. وكان القوميون العرب، ولا يزالون، يرون في هذه الأقليات، ولا سيما القومية منها، قوى معيقة للوحدة العربية. وهذا بديهي في ظل تأخر بنى المجتمع بوجه عام، وبنية الوعي القومي السائد بوجه خاص. ولا يزال كثيرون من "القوميين العرب" يرون في الكورد حركة سياسية انفصالية تهدد وحدة "الوطن العربي" المفترضة. المسألة، فيما أرى تتعلق ببنية "الوعي القومي" لدى العرب والكورد على السواء. وقد أشرتُ في مناسبات عدة، ومواضع عدة، إلى أن المشروع الوحدوي الفعلي، القابل للتحقيق، هو المشروع الديمقراطي الذي يحقق مصالح جميع الفئات الاجتماعية والإثنية، بنسب متفاوتة بالطبع. فحين يتحقق الاندماج القومي، وتقوم عندنا دولة وطنية حديثة، قد يجد الكورد السوريون، أو العراقيون، مصلحة ما في الوحدة العربية، ولا يرى العرب في هؤلاء عقبة في طريق وحدتهم. المسألة، هنا، هي مسألة علاقة الوحدة بالديمقراطية، التي تفترض إعادة بناء مقولات الأمة والقومية والدولة القومية والوحدة العربية على أسس عصرية وحديثة. وحين يصير الأمر كذلك، يصير الكورد مخيرين بين الاندماج والانفصال، سواء كان هذا الأخير حكماً ذاتياً أو دولة مستقلة. يجب ألا تخيفنا فكرة الاستقلال الذاتي الثقافي أو السياسي، إذا كنا ديمقراطيين حقاً. العرب هم الذين يجعلون من الأكراد انفصاليين أو غير انفصاليين، وبيدهم تحويل المسألة الكوردية إلى عامل قوة بدلاً من كونها عامل ضعف حتى يومنا. ولو كان الوضع الدولي والإقليمي، واحتمالات تطوره في المدى المنظور، تسمح بقيام دولة كردية واحدة لجميع الكورد، ودولة عربية واحدة لجميع العرب، لكنت من أكثر المدافعين عن الأولى دفاعي عن الثانية. ولكن المسؤولية الأخلاقية تقتضي وضع حد لـ "هذيان الهدف" الوحدوي، ولآلام "الجرح النرجسي"، وتلمس ممكنات الواقع، لكي لا ندفع مرة أخرى ثمناً باهظاً من أجل لا شيئ، ثم نعود مرة أخرى إلى المربع الأول. أليس هذا مؤلماً؟ بلى، ولكنه واقع. وقد كتبت من مدة وجيزة أنْ: لا للوحدة العربية مع الاستبداد، ولا لتحرير فلسطين مع الظلامية، ولا، وألف لا، لعصر الرعايا وعصر الحريم. وأقول مثل ذلك في "المسألة الكوردية".
* لاحظت أن موقفك من الدولة القطرية عدائي نسبياً. وفي المقابل نقرأ ونسمع أطروحات مختلفة تؤيد تحول أقوام الدولة القطرية من خلال الاندماج إلى أمة مستقبلية؛ فالباحث العراقي سليم مطر، على سبيل المثال، يتحدث في كتابه "جدل الهوية" عن وجوب تجاوز الأقوام المختلفة لتمايزاتها والاندماج في "الأمة العراقية". ما رأيك في هذا المصطلح الجديد: الأمة العراقية؟ وهل يعبِّر عن معطى طبيعي وواقعي، أم عن حالة صنعية؟ وتبعاً لذلك، ما مدى واقعية أطروحة "الأمة السورية"، التي ينادي بها الحزب السوري القومي الاجتماعي؟
** أجل، كان موقفي من "الدولة القطرية" ولا يزال سلبياً، ولا أحب أن يوصف بالعدائية، لأن مفهوم العداوة ليس مفهوماً سياسياً. وما زلت أعتقد أن ثمة علاقة بين "الدولة القطرية" القائمة، بخصائصها المعروفة، وبين التبعية والاستبداد، بحكم الطابع الكومبرادوري الذي طبع هذه الدولة منذ نشأتها، وجعل مركز ثقلها الاقتصادي والمالي والتقاني والسياسي في الخارج؛ فهي، بمعنى ما، إحدى تعيُّنات "المسألة الشرقية" وتداعياتها.[3] ولذلك لا تزال علاقة الدولة القطرية بما يفترض أنه مجتمعها، علاقة تخارج وتنابذ؛ وكذلك العلاقة بين الشعب والسلطة السياسية. وقد عارضت في كتابي الأول "حرية الآخر" (1994) هذه "الدولة القطرية" بالدولة الوطنية، لا بدولة مفترضة للأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وأشرت إلى أن الدولة الوطنية، هي الدولة المستقلة استقلالاً ناجزاً، والتي تعبّر عن كلية المجتمع وعن سيادة الشعب، ومركز ثقلها الاقتصادي والمالي والتقاني والسياسي في الداخل، لا في الخارج. وما زلت أعتقد أن الدولة الوطنية هي شكل التوسط الضروري بين الدولة القطرية، سيئة الصيت، والدولة- الأمة المنشودة، التي تتوقف إمكانات إنجازها على المشروع الديمقراطي العلماني، الذي تتعرض حوامله الثقافية والاجتماعية والسياسية، اليوم، إلى محنة تقلص حظوظ نجاحه يوماً بعد يوم. فالمشروع الوحدوي، كما أراه، لا يكون كذلك، أي لا يكون مشروعاً ديمقراطياً، إلا بقدر ما يعبر عن اتجاه سير المجتمع كله، في كل بلد على حدة، وعن خياراته الاستراتيجية، وعن حداثة بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وتماسك نسيجه الوطني، وارتقائة إلى مستوى المجتمع المدني الحديث المندمج قومياً أو وطنياً، ولا فرق. لقد بات من الضروري أن نقيم الحد على أي شكل من أشكال التوحيد القسري البسماركي أو البونابارتي، وعلى النزعة الإرادوية لهذا الحزب القومي أو ذاك، أو لهذا "الزعيم" القومي أو ذاك.
على أن ثمة علاقة ضرورية بين مفهوم الأمة ومفهوم المجتمع المدني والدولة الوطنية. الأمة تجريد نظري يحيل على وجود اجتماعي متعين في المكان والزمان، ليس له من اسم آخر سوى المجتمع المدني، والدولة الوطنية هي شكله السياسي. إذن، تتعين الأمة واقعياً في المجتمع المدني والدولة السياسية بالتلازم الضروري، إذ ليس هنالك مجتمع مدني بلا دولة وطنية، ولا دولة وطنية بلا مجتمع مدني. وما دام الأمر كذلك، فثمة مسألة نظرية وعملية مطروحة على الفكر السياسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، تتعلق بالدولة القائمة بالفعل هنا والآن، في سورية أو في العراق أو في غيرهما، وبإمكانات تحولها إلى دولة وطنية لجميع مواطنيها، وصيرورتها من ثم دولة/أمة. في هذه الحال يغدو من البديهي الحديث عن أمة سورية وأمة عراقية، كما نتحدث اليوم عن مجتمع سوري ومجتمع عراقي، وشعب سوري وشعب عراقي. ومفهوم الشعب، استطراداً، هو المعادل السياسي لمفهوم الأمة. كلمة "الأمة" من الكلمات المقدسة في خطابنا السياسي، وغير قابلة للتحديد والتعيين، وغير خاضعة لسنن الكون والفساد، ومبدأ التشكل والانحلال. إنها، بالأحرى، جوهر ماهوي ثابت وخالد. وكان الله في عون من يحاول نزع طابع العصمة والقداسة عنها، وعن "المؤمنين" بها. ألا ترى أن "القومية" عندنا فعل إيمان؟
أعتقد أن الفكر السياسي عندنا مأخوذ بسحر الكلمات وقدسية بعضها وشيطانية بعضها الآخر، فهو يتحدث عن شعب سوري ومجتمع سوري ودولة سورية، وشعب عراقي ومجتمع عراقي ودولة عراقية، وشعب مصري ومجتمع مصري ودولة مصرية مثلاً، ويؤثم أي حديث عن أمة سورية أو أمة عراقية أو أمة مصرية. فكلمة "الأمة" التي تحيل على المجتمع والدولة، موقوفة في هذا الخطاب على الأمة العربية. الخطاب السياسي متناقض ومرتبك، في هذه الحيثية، وفي كثير غيرها. أنا لا أجد حرجاً في الحديث عن أمة سورية، بدلالة المجتمع المدني السوري والشعب السوري والدولة الوطنية السورية، أي بدلالة ما يمكن أن يكون في المدى المنظور، وليس بالمعنى الذي نجده عند أنطون سعادة، الذي هو نسخة معدلة عن الأمة العربية في الفكر القومي العربي. ولا أستطيع الحديث عن رؤية سليم مطر، لأنني لم أطلع بعد على كتابه الذي أشرت إليه، وكان بودي أن أفعل ذلك قبل الإجابة عن هذا السؤال فلم أقع عليه. وقد عرضت رؤيتي هذه بالتفصيل في كتابي الأخير "المجتمع المدني هوية الاختلاف" الذي صدر مطلع هذا العام.
* في التصور العام منظوران متضادان: الأول يرى أن حقوق الفرد تُصان من خلال الجماعة التي ينتمي إليها (فئة، طبقة، أمة .. إلخ) وهي عقيدة الأكثرية، والثاني، وأنت من أنصاره، على ما أعتقد، يرى أن حرية الجماعة هي نتاج حرية الفرد وحقوق الإنسان، فهلا ناقشنا قليلاً هذه المسألة، لأني أعتقد بوجود علاقة جدلية وتكاملية بين المنظورين.
** على صعيد التجريد النظري هنالك علاقة "جدلية وتكاملية" بين المنظورين، كما تقول، ولكنها علاقة صورية، ومن ثم غير جدلية. الجدل، بما هو منطق الواقع، أمر مختلف. لننطلق من البنى الاجتماعية السائدة في سورية: العائلة الممتدة والعشيرة والمذهب أو الطائفة. هذه البنى لا تزال توصِّف الأفراد، وتحدد ما هو أساسي في محمولاتهم الذاتية، فتحكم وعيهم وممارستهم إلى حد بعيد. وقد توضَّعت فوقها بنى حديثة: "طبقات" ونقابات وجمعيات وأحزاب سياسية، لم تلبث أن تلبست بأسوأ صفاتها، إذ أعاد الأفراد إنتاج انتماءاتهم ما قبل الوطنية وما دون الوطنية في هذه البنى التي يفترض أنها بنى حديثة. القاسم المشترك بين جميع هذه البنى، في بلادنا، هو عدم الاعتراف بفردية الفرد وفرادته وحريته واستقلاله، وعدم اعترافها بمبدأ الحرية. وأكاد أقول إنها جميعاً تقوم على مبدأ "الولاء والبراء"، الذي هو أساس التحاجز الاجتماعي وانقطاع عرى التواصل القائم والمستمر منذ قرون. حتى مفهوم الأسرة الحديثة، النُووية، أي المؤلفة من الأم والأب وأولادهما الصغار، لا يزال ملتبساً بتقاليد العائلة الممتدة، إذ يظل الأولاد، في الأعم والأغلب من الحالات، تابعين لأبويهم، بل لأبيهم، وإن بلغوا سن الرشد القانونية (18 سنة) وتجاوزوها. في حين يقتضي مفهوم الأسرة الحديثة استقلال الأولاد وحريتهم حين يبلغون سن الرشد، فهم أحرار في البقاء داخل الأسرة أو الانفصال عنها (لاحظ هنا مبدأ حرية الانفصال الذي هو مبدأ حرية)، وليس للأبوين أن يتدخلا في شؤونهم الشخصية، أو في تحديد اتجاهاتهم ومسارات حياتهم. الأولاد، وقد بلغوا سن الرشد يتحررون من تبعيتهم لأبويهم، ومن واجب إطاعتهما، ويحررون، في الوقت نفسه، أبويهم من واجب التربية والرعاية والإنفاق عليهم، فيصيرون جميعاً أحراراً بالتساوي. الحرية هنا مفهومة على أنها نقيض التبعية والولاء، وهذا معنى بالغ الأهمية في أوضاعنا، لأن مبدأ التبعية والولاء يضرب جذوره عميقاً في بنانا الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو المبدأ ذاته الذي كانت تقوم عليه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في العصور المملوكية والعثمانية، ولم تقطع مجتمعاتنا بعد مع هذا المبدأ. والاستبداد المحدث الذي تمثله الدولة التسلطية أعاد إنتاجه وعززه، لا بالتربية في الطلائع والشبيبة والحزب ومنظمات الضبط الأخرى فحسب، بل بالقمع العاري أيضاً. ومن ثم فإن كلمة السر لتحديث مجتمعنا هي الحرية، بدءاً بحرية الفرد وحقوق الإنسان. ولما كانت الأسرة نواة المجتمع وأساسه الطبيعي، فإن حرية أفرادها على النحو الذي أشرتُ إليه، يجعل الحرية أساساً لسائر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هنا تتجلى على نحو خاص أهمية الثقافة والتربية الحديثتين، إلى جانب الأهمية الحاسمة للعمل والإنتاج الاجتماعي، أي لنمط إنتاج الحياة الاجتماعية. التقانة الحديثة واستيراد المصانع وفق مبدأ "المفتاح باليد" لا تحدِّث المجتمع، بل قد تسهم في تعميق تأخره بزيادة الاستغلال، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، وزيادة تهميش الفئات الفقيرة، كما نلاحظ في الواقع. لقد تعلمتُ من الياس مرقص تعريفاً ضارباً للديمقراطية يقول: الديمقراطية هي الليبرالية زائد مفهوم الشعب. ومبدؤها الأساسي هو حرية الفرد وحقوق الإنسان.
اليساريون من القوميين والاشتراكيين، والثوريون الإسلاميون معاً، لا يقبلون هذا المنطق الليبرالي البورجوازي الغربي الدخيل على ثقافتنا، والغريب عن تراثنا. ومن ثم؛ فإن حظه قليل في المدى المنظور، ولكنني موقن بأهميته وضرورته، وبأنه سيظل على جدول أعمالنا حتى نشرع في تحقيقه. ولك أن تستخلص من ذلك بعض سمات "اليسار" في بلادنا.
العلاقة الجدلية، في هذا السياق لا تقتصر على صيرورة السبب نتيجة والنتيجة سبباً فحسب، بل هي بالأحرى علاقة العام بالخاص والفردي. فالعام، الأمة مثلاً، لا يتعين واقعياً إلا في الخاص؛ الطبقات الاجتماعية مثلاً، والفردي؛ أي في الفرد الاجتماعي والمواطن. فإذا كان الفرد تابعاً وموالياً وعاجزاً ومطاوعاً وقانعاً ومصدقاً ومسلِّماً .. فالطبقة التي ينتمي إليها كذلك، والأمة كلها كذلك. ماذا نعني حينما نقول : "الأمة العربية" مثلاً تُعدُّ نحو ثلاثمائة مليون فرد؟ هل نعني أن هؤلاء ثلاثمائة مليون رقم، أم يفترض أنهم ثلاثمئة مليون "أنا أفكر"؟! ليس هنالك أمة حرة بلا مواطنين أحرار، أو مجتمع حر بلا أفراد أحرار. حينما نقول: "سقراط إنسان" فإن هذه الجملة الإسمية، أو هذه القضية المنطقية تعني وحدة الموضوع سقراط والمحمول إنسان. العام والكلي، الذي هو الإنسان، يتعين في الفرد، سقراط. وليس له من وجود فعلي سوى في سقراط أو زيد أو عمر أو عبدالله أو هفال. وقل مثل ذلك في ظواهر الواقع المادي. هذا هو المعنى الفعلي لأفرادية الواقع وتعدد مكوناته واختلافها، وهذا معنى قولنا إن الوطنية أو القومية صفة للدولة، بما هي تجريد العمومية، وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها، وليست حكم قيمة؛ وأن الدولة هي تحديد ذاتي للشعب، أي للمواطنين الأحرار المستقلين الذين ينضوون ضرورة في فئات وطبقات اجتماعية، وطوعاً في تنظيمات اجتماعية ومهنية وأحزاب سياسية وتيارات فكرية وأيديولوجية، والذين يضعون القوانين ويطيعونها، وليس للشعب سوى هذا المعنى. الخاص والفردي هما العام والكلي متعينين، هذا هو جذر العلاقة الجدلية بين الفرد، من جهة، والمجتمع والدولة، من الجهة الثانية. ولما كانت الماهية الإنسانية تتجلى في جميع أفراد النوع بالتساوي، فقد عرف كارل ماركس المجتمع المدني بأنه الإنسان مموضعاً، وكذلك الدولة السياسية، بما هي الشكل السياسي للمجتمع المدني.
لعل الفارق النوعي بين المنظورين أن المنظور الاجتماعي يقلل من أهمية حرية الفرد قياساً بحرية المجتمع، وقد يؤول إلى إلغاء الفرد، وإلغاء حريته بالتعدي. أما المنظور الفردي، الليبرالي إذا شئت، فليس بوسعه إلغاء المجتمع، لأن إلغاء العام والكلي هو إلغاء الخاص والفردي، من دون أن أنفي إمكانية الغلو والشطط والتطرف أو الإفراط في حرية الفرد، ولا سيما حين لا تعود حرية الفرد مُشرعَنة اجتماعياً. لا شك في أن حرية المجتمع قيد على حرية الفرد، والعكس صحيح. وقد أجمع المفكرون الديمقراطيون على أن سمة النظام الديمقراطي هي الاعتدال في الحالين. وليس بالإمكان تحديد مجال حرية الفرد في المجتمع نظرياً، فهذا لا يمكن تحديده إلا تجريبياً، في كل حالة على حدة، انطلاقاً من فرضية أن كل مجتمع ينتج نظامه العام ومؤسساته وتنظيماته وعلاقاته، في ضوء معطيات واقعه ودرجة تقدمه. ولكن المهم هو ألا نتخلى عن المبدأ، مبدأ الحرية، ولا سيما حرية الفرد.
* يمكن اعتبار هذا السؤال تتمة للسؤال السابق. يتحدث الياس مرقص عن جدلية الخاص والعام، ويرى أن الخاص هو عام، وأن مشكلة فرد واحد هي مشكلة الجميع. ولكن للقوى السياسية العربية رأياً مختلفاً، فنادراً ما تتطرق هذه القوى إلى المسألة الكوردية، وإن فعلت فإنها تراها على أنها مسألة خاصة بالكورد. فهل تتفق مع الياس مرقص، وترى، من ثم، أن المسألة الكوردية هي قضية العرب كذلك؟
** أشرت من قبل إلى أنَّ المسألة الكوردية جزء أو فرع من المسالة الوطنية الديمقراطية، سواء في سورية أو في العراق، أو في غيرهما. ومن المؤكد أنني على خطا الياس مرقص، وقد تمثلت رؤيته التي تقول إن مشكلة فرد واحد هي مشكلة الجميع، وعلى خطا ياسين الحافظ أيضاً. لا يحق لي أن أقول إنني أتفق معه، فأنا تلميذه[4] في هذه القضية وفي كثير غيرها، وقد تمثلت كل ما أعدُّه صحيحاً حتى اليوم، وقد لا يكون كذلك، وهذا يتعلق بحدود وعيي وحدود معرفتي، وهي قاصرة وناقصة بالتأكيد. أجل ياسيدي، إن مشكلة فرد أو جماعة أو عدد قليل، أو كثير، من الأفراد، هي مشكلة الجميع. ومن ثم، فإن المشكلة الكوردية هي مشكلة جميع السوريين في سورية، ويفترض أن تكون مشكلة جميع العراقيين والإيرانيين والأتراك في بلدانهم. وأنا أشعر بخجل عميق من ضروب التمييز والعسف والحرمان والإقصاء والاضطهاد التي مارستها، وتمارسها، السلطات السياسية باسم العرب، وباسم "القومية العربية"، إزاء الأكراد في سورية. بل أشعر بالعار إزاء المجازر التي ارتكبها الطاغية صدام حسين في شمالي العراق، ولعلك تحب أن أقول في كوردستان العراق، وليس عندي أي مشكلة في ذلك، لأنها أرض الكورد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وأشعر بالعار أكثر لأنني اكتفيت بالاحتجاج السلبي، أي بالشجب والإدانة والحزن والتعاطف. وأعتقد أن على العرب عامة، وفي سورية والعراق خاصة أن يتطهروا من هذا العار، وأن يعتذروا للكورد عما جرّته عليهم السياسات "القومية" من ويلات، هي جزء من الويلات التي أصابت العرب أنفسهم[5].
في الدولة الحديثة تنشاً بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية علاقة جديدة لم تكن معروفة قبل نشوء هذه الدولة، أعنى علاقة المواطنة التي هي جملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات تتعدى ما كانت تضعه الانتماءات ما قبل الوطنية. في ضوء هذه العلاقة يغدو اعترافي بحقوق الآخر المدنية والسياسية واحترامها والدفاع عنها، هو الضمانة الموضوعية لاعترافه بحقوقي واحترامها والدفاع عنها. ويغدو الدفاع عن حقوق أي مواطن من مواطني الدولة، هو دفاع عن الحقوق بوجه عام، بما فيها حقوق المدافع نفسه. فإن الانتقاص من حقوق فرد أو عدد قليل أو كثير من الأفراد، أو من حقوق جماعة من الجماعات أو فئة من الفئات، هو انتقاص من حقوق المجتمع كله، يغدو معه كل فرد مهدداً بانتقاص حقوقه أو بهدرها وتضييعها. وهذا هو معنى أن مشكلة فرد هي مشكلة الجميع. المواطنة صيغة حديثة للتكافل الاجتماعي، من أهم معايير حداثتها عموميتها وشمولها جميع مواطني الدولة، فضلاً عن قيامها على مبدأ المساواة أمام القانون. ومن دون هذه الصيغة تظل الوحدة الوطنية ناقصة ومثلومة.
وملاحظتك على القوى السياسية العربية في محلها، فإن جميع الأحزاب السياسية في سورية يغلب عليها الطابع الأيديولوجي القومي أو الاشتراكي أو المذهبي، ويصح عليها ما قلناه عن الأيديولوجيات الكبرى التي تعيش كلٌّ منها في عالمها الخاص، الذي نسجته من أوهامها وقبلياتها ومسبقاتها ومطلقاتها، لا في العالم الواقعي. ولأسباب كثيرة، لسنا في معرض الحديث عنها هنا، تحولت هذه الأحزاب إلى بنى موازية للبنى التقليدية، وهذا ما يفسر انشقاقاتها المتتالية وانكفاء أعضائها من المواطنين الكورد إلى أحزاب كردية خالصة، باستثناء عدد قليل يؤكد ما أذهب إليه أكثر مما ينفيه. ولا أعتقد أن مواقف الأحزاب المعارضة من المسألة الكردية يختلف كثيراً عن موقف الحزب الحاكم وجبهته الوطنية التقدمية، باستثناء حزب العمل الشيوعي. وقد بدأت كوادر قليلة العدد من هذه الأحزاب تتفهم المسالة الكوردية على أنها مسألة وطنية، ولم تتخلص بعد من رواسب وعيها السابق، فلا تزال مواقفها خجولة ومترددة. وأظن أن الحوار الوطني الذي انطلق منذ سنوات قليلة، وأخذت دوائره تتسع شيئاً فشيئاً، سوف يسهم في تلمس الأبعاد الوطنية والإنسانية لهذه المسألة، ويدمجها في رؤية وطنية ديمقراطية جديدة بدأت تتضح معالمها الأساسية؛ إذ أخذ نسق مفاهيمي جديد قوامه حرية الفرد وحقوق الإنسان ومبدأ المواطنة والمساواة وسيادة القانون وسيادة الشعب، وإعادة الاعتبار للمجتمع المدني والدولة الوطنية ... يشق طريقه، وإن بصعوبة كبيرة، إلى الخطاب الثقافي والسياسي، ولسوف يسهم في تفكيك النوى الصلبة لهذا الخطاب، وإعادة بنائه في ضوء معطيات الواقع وحقائق العصر الحديث. وإنني لعلى ثقة بوعود هذا النسق الجديد. فلقد دخلت سورية في مرحلة التحول الصعب من النسق الشمولي إلى دولة القانون والمؤسسات.
* المقولة الماركسية: "إن شعباً يضطهد غيره من الشعوب لا يستطيع أن يكون حراً" معروفة للجميع، ولكن قلة من المثقفين والسياسيين يدركون قيمتها، من هؤلاء الياس مرقص الذي يقول: "الأكثرية التي تضطهد الأقلية إنما تدمر شروط وجودها، ناهيك عن تقدمها وقوتها ومنعتها". ولعل الاحتلال الأمريكي للعراق خير دليل على صحة هذا الكلام. ولكن هناك في المقابل من يقول إن المسألة الكوردية تشكل تهديداً للأمن القومي العربي، ودليلهم على ذلك "تواطؤ" الأكراد مع الأمريكيين، فأين تقع الحقيقة بين هاتين الرؤيتين؟
** لا أوافقك الرأي أن مقولة ماركس معروفة للجميع، فهي ليست معروفة إلا لقلة ممن قرؤوا ماركس مباشرة، أي بلا وسيط سوفييتي أو صيني أو غير ذلك. وقلة من هؤلاء من وضعوا هذه المقولة في سياق ما سماه الياس مرقص "جدلية القهر" التي أشرتَ إليها. أدَّعي أن كارل ماركس لم يُقرأ جيداً في بلادنا، ولم يُفهم جيداً. فمن الظلم لماركس ولـ "الماركسية" أن تَنسب الأحزاب الشيوعية نفسها إليهما. كما أن النص الذي نقلته عن الياس مرقص يحتاج إلى تدقيق وتوثيق، مع أنه لا يتعارض البتة مع رؤية الياس مرقص الديمقراطية الإنسانية.
لا يستطيع تمثل مقولة ماركس هذه، وتفهُّم "جدلية القهر" إلا من يضع الإنسان في مركز وعيه، وفي مركز رؤيته الفكرية والسياسية، ويرى، من ثم، أن الإنسان هو معيار جميع القيم. وماركس، في هذا الجانب أحد كبار الإنسانويين، ووريث شرعي لفلسفة النهضة والتنوير.
لعله من غير المفيد اختزال الأسباب التي أدت إلى احتلال العراق في سبب واحد هو اضطهاد الأكثرية للأقلية، وهنا اضطهاد العرب العراقيين للأكراد العراقيين. فلهذه المسألة جوانب متعددة، أبرزها جانبان: الأول هو تصميم الولايات المتحدة الأمريكية على احتلال العراق، لا على إزالة نظام صدام حسين فقط. وجلاء هذا الجانب يحتاج إلى دراسة الاستراتيجية الأمريكية، بوجه عام، وبعد نهاية "الحرب الباردة" وزوال الاتحاد السوفييتي، بوجه خاص، وتعرف الوضع الدولي أو نسق العلاقات الدولية الذي مكن الولايات المتحدة من ذلك، على الرغم من معارضة المجتمع الدولي واحتجاجات الشعوب، بما فيها دوائر واسعة جداً من الشعب الأمريكي وشعوب الدول التي ساندت الإدارة الأمريكية. وقد قيل في ذلك الكثير وكتب الكثير. والجانب الثاني هو قابلية العراق للاحتلال، وهو ما يحتاج منا إلى اهتمام مضاعف. فالاضطهاد الذي مارسته السلطة العراقية البائدة شمل معظم العراقيين، إن لم أقل جميع العراقيين، انطلاقاً من جدلية القهر. والمجازر الجماعية التي ارتكبتها تلك السلطة الغاشمة لم تقتصر على الأكراد. وهذه وغيرها كثير، حيثيات مهمة تساعدنا على فهم بنية ذلك النظام والأنظمة المشابهة. ولا بد أن يسجل المرء هنا أن الأكراد العراقيين حاولوا أن ينجوا بجلودهم منذ 1991، تاركين وطنهم العراقي ومواطنيهم العراقيين في قبضة الوحش. ولا يزالون على الموقف نفسه حين يصرون اليوم على "الفيدرالية القومية"، في ضوء الصيغة التي أقرها "برلمان كردستان" عام 1992. وأنا لا ألوم الأكراد في ذلك، ولكنني أشير إلى نقص ما في المبدأ، مبدأ المواطنة، لا عند الأكراد وحدهم، بل عند جميع العراقيين، وعند جميع السوريين. من دون هذا المبدأ لا مستقبل، سياسياً، للعراق أو لسورية، إذ ستظل الانتماءات ما قبل الوطنية هي السائدة والحاكمة. أعتقد أن مشكلة العراق اليوم تتلخص في إعادة بناء المواطنة العراقية والوطنية العراقية، أي إعادة بناء دولة حديثة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، وإنتاج عقد اجتماعي جديد قوامه الاندماج الوطني الذي يضمن الحقوق المدنية والسياسية والثقافية لجميع مكونات المجتمع. ومن ثم فإن الفيدرالية التي يقرها البرلمان العراقي، لا برلمان كردستان، هي أحد الحلول الديمقراطية لمشكلة الكورد في العراق. لأن البرلمان في كل دولة هو مؤسسة سيادية، وسيادة الدولة لا تتجزأ ولا تنتقل ولا تفوَّض.
الاضطهاد بوجه عام، واضطهاد الأقليات بوجه خاص، ينخر الدولة ويفتُّ في عضدها وينمي قابليتها للاستعمار، لأنه يفك جميع عرى التضامن، وجميع روابط الاجتماع المدني والسياسي. ولقد كنت، ولا أزال، أرى أن الاستبداد أكثر خطراً ووبالاً من الاستعمار، لأنه يستقدم الاستعمار، أو ينمي "القابلية للاستعمار". ليس الأكراد العراقيون وحدهم من رأوا في الاحتلال الأمريكي منقذاً ومخلصاً، ومن ثم لا يجوز الحديث عن تواطؤ الأكراد أو غير الأكراد، بل عن الاستبداد الذي ألغى المجتمع والدولة، وجعل من جميع مجالات الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً، هو مجال السلطة التي تحتكر كل شيء: الاقتصاد والسياسة والثقافة وقوة العدد والتنظيم والحقيقة والوطنية، وتحل مبدأ الولاء والتبعية محل مبدأ المواطنة، الذي قوامة الحرية والاستقلال والمساواة والمشاركة والمسؤولية. أظن أن المسألة، ولا أريد أن أسميها الحقيقة، تكمن هنا.
الأكراد العراقيون والسوريون إذا شئت أمام مفترق: إما أن يعملوا في سبيل بناء مواطنة عراقية جديدة ووطنية عراقية جديدة، ومواطنة سورية جديدة ووطنية سورية جديدة، في نطاق دولة حق وقانون حديثة مستقلة وذات سيادة، وإما أن يعملوا في سبيل دولة كردية مستقلة، والخياران، في نظري، مشروعان سياسياً وأخلاقياً بالتساوي، ولهما مسوغات ذاتية وفيرة، ولكن الحاسم في الأمر هو ممكنات الواقع بثلاثة أبعاده: المكاني والزماني والمنطقي، لا الرغبات والمشاعر والإرادات، على أهميتها. الخطاب الملتبس والمزدوج لا يفيد أحداً، ولا يفيد أصحابه بالدرجة الأولى.
لم أعتقد يوماً، ولا أعتقد اليوم، أن الأكراد يشكلون خطراً على "الأمن القومي العربي"، على الأقل لأنه لم يكن هناك، وليس ثمة اليوم، أمن قومي عربي. وهزيمة حزيران 1967، وسلسلة الهزائم اللاحقة كانت برهاناً قاطعاً على عدم وجود "أمن قومي عربي". وكل حديث من هذا القبيل هو أقرب إلى اللغو والهذر السياسيين. فماذا يعني الأمن القومي العربي إذا كانت الأنظمة السياسية العربية جزءاً من منظومة الأمن القومي الأمريكي، وإذا كان "الرجل المريض" لا يزال مريضاً، بتعبير محمد كامل الخطيب، وإذا كانت "المسألة الشرقية" يعاد إنتاجها في صيغ شتى: كالشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير؟ ولكن بعض القوميين العرب، للأسف، يبحثون عن "عدو" ضعيف، كالكورد، يمارسون عليه عقدهم القومية، ويداوون به جرح هويتهم النرجسية. القومويون، أو القومجيون، العرب يتعاملون مع رغباتهم وأوهامهم على أنها حقائق، وكذلك، بل أكثر من ذلك، القومويون، أو القومجيون، الكورد. والمشاريع القومية لدى أولئك وهؤلاء لا تزال أضغاث أحلام. أقول ذلك وأنا أعلم أن في هذا القول استفزازاً قد يؤرث التعصب القومي لدى الطرفين، ولكن لا بأس، ليخرج القومجيون كل ما في أحشائهم أكثر مما فعلوا حتى اليوم.
كنا نستهجن قول الصهاينة: فلسطين أرض بلا شعب. وكنا نحاول تفنيده بغير حق وبغير عقل، والحق والعقل صنوان، لأننا لم نكن نميز مفهوم الشعب من مفهوم السكان، ولم نكن، ولا نزال، لا نميز علم السياسة من علم الإحصاء، ولا ندرك الرابطة المنطقية بينهما. أليست لافتة للنظر السهولة التي أقيمت بها دولة إسرائيل، والسهولة التي جرت بها هزيمة "سبعة جيوش عربية"، والسهولة المماثلة التي هزم بها "العرب" أمام إسرائيل منذ 1967 حتى اليوم، فضلاً عن سهولة احتلال العراق؟ أعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي أنتج شعباً فلسطينياً في طريقه إلى إنتاج شكل وجوده السياسي دولة وطنية عاجلاً أم آجلاً، وقد عبرت عن ذلك الانتفاضة المجيدة الأولى، لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا منظمتا حماس والجهاد الإسلامي، ولا الانتفاضة الثانية التي تحولت إلى حرب إسرائيلية ويأس فلسطيني. بل أرى أن منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمتا حماس والجهاد الإسلامي صارت عبئاً على الشعب الفلسطيني، وعقبات جدية في طريق تطوره السياسي، مثلها في ذلك مثل الأحزاب "السياسية"، العربية والكوردية، في سورية، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر. وأضع كلمة سياسية بين مزدوجتين لأشير إلى أن هذه الأحزاب هي بالأحرى أحزاب أيديولوجية، عقائدية، لا أحزاب سياسية وطنية[6]، لأن لكل منها وطناً على قده لا مكان فيه للآخرين. وأعتقد اليوم أن معظم البلدان العربية أرض بلا شعوب، وكذلك كوردستان سورية والعراق وتركيا وإيران أرض كوردية، أي أرض يقطنها أكراد، بلا شعب كوردي ولا أمة كوردية ولا قومية كوردية، بل عشائر وطوائف وإثنيات متحاجزة، وإلا كيف نفسر الاحتلال الأمريكي السهل للعراق، واحتمال أن يتكرر ذلك في غير مكان من "الوطن العربي الكبير" على نحو أكثر أو أقل سهولة. ألا ترى كم هذا مؤلم وصادم للمشاعر "القومية"؟ ولكن هذا الألم لا يتجاوز دائرة المشاعر والعواطف إذا لم نعد التفكير في مفاهيم الشعب والأمة والقومية والوطن والوطنية وغيرها ونعيد تعريفها. أمس ثارت ثائرة القومجيين والوطنجيين على أدونيس، الشاعر والمفكر المرموق، حين قال في بيروت وفي لبنان شيئاً من هذا القبيل، وقد قال حقاً، كما أعتقد، وأوضح أن ما قاله عن بيروت ينطبق على دمشق وبغداد وغيرهما من المدن الميتة. وستثور علىَّ ثائرة القومجيين العرب والكورد، ولكن لا مناص من قول ما نعتقد أنه حق. هل تعلم أن وعينا وفكرنا لم يرتقيا إلى مستوى الوعي الوطني، ناهيك عن الوعي الكوني والتاريخي، وأن فكرنا لا يزال متجهاً إلى الماضي، لا إلى المستقبل؟
منذ وقت غير قصير كتب ألبير ميمي، المثقف التونسي، من أبناء الأقلية اليهودية في تونس، كتاباً مهماً عنوانه "صورة المستعمِِِِر والمستعمَر"، يحكي فيه مأساة ضياعه واغترابه في ظل الاحتلال الفرنسي لتونس، إذ كان الفرنسيون لا ينظرون إليه إلا بوصفه وطنياً تونسياً, والمسلمون التونسيون لا ينظرون إليه إلا بوصفه يهودياً عميلاً ومتواطئاً. فهو منبوذ ومتهم من الجانبين، المستعمِر والمستعمَر. وأعتقد أن هذه الصورة تتكرر اليوم في العراق. فالأمريكيون، كما أعتقد، لا ينطرون إلى الكردي إلا بوصفه وطنياً عراقياً، وإن تعاون معهم، والعراقيون العرب لا ينظرون إليه إلا بوصفه كردياً عميلاً ومتواطئاً. أليس لهذه الإشكالية من حل؟ لقد كان الفرنسيون، في الحالة التونسية، والأمريكيون اليوم، في الحالة العراقية، على وعي حديث بمفهوم الوطنية يتجاوز الوعي التونسي والوعي العراقي بعشرات العقود. فمتى نرقى إلى مستوى الوعي الوطني؟ ذلكم هو الموضوع الأساسي في كل هذا الكلام الكثير.
* أنت تطرح العلمانية حلاً لمسألة الأقليات. كيف يمكن إقناع الكورد بذلك، وتاريخ الدولة التركية "العلمانية" في اضطهاد الأقليات غير التركية، كالأكراد والأرمن، معروف للجميع؟ ألا يدحض المثال التركي أطروحتك القائلة إنه: "لا معنى للعلمانية بلا إطار ومحتوى قومي"؛ فالقومية في تركيا تشكل عثرة في طريق العلمانية، أم إن هنالك ما هو غير واضح لدي؟
** أجل، العلمانية لا بد أن تكون في أساس أي حل يراد له أن يكون ناجعاً ودائماً لمسألة الأقليات بوجه عام، ولمسألة الأقليات الدينية والمذهبية بوجه خاص؛ لأنها شرط أساسي لازم أو ضروري من شروط الاندماج الوطني. وهي، أي العَلمانية، بفتح العين، من العَلم، بفتح العين أيضاً، أي العالم، لا من العلم، بكسر العين، مع أن كثيرين عندنا ينسبونها إلى العلم، بكسر العين. وتعني أن عالم الإنسان، المجتمع والدولة، هو من إنتاج الإنسان نفسه، وليس تجلياً لأي قوة مفارقة أو خارقة للطبيعة، وأن حقيقة العالم أو حقائقة مركوزة فيه، ولدى الإنسان ما يكفي من الملكات والمواهب والقدرات لاكتشافها وجعلها في تصرفه، لتحسين شروط حياته باطراد. ومبدأ هذا الإنتاج هو الحرية، بما هي وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وإمكانية الاختيار، لا بوصفها نقيض العبودية والتبعية فقط. والعلمانية في أصل مبدئها تقوم على ثلاثة أركان:
أولها الإنسانوية أو الإنسية التي تعني أن الإنسان هو المبدأ والغاية، لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية مهما سمت. وتعني احترام الإنسان وتقديره حق قدره لذاته، لا لحسبه ونسبه ولا لثروته ولا لقوته وجبروته، ولا لأي صفه أخرى من صفاته أو لأي من محمولاته، وأن جميع محمولات الإنسان تنسب إليه وتستمد قيمتها منه، فالإنسان هو معيار جميع القيم. الإنسانويون في التاريخ الحديث والقديم علمانيون بامتياز وعقلانيون بامتياز.
والثاني هو المساواة، لأن الماهية الإنسانية تتجلى في جميع أفراد النوع بالتساوي، فليس هنالك من هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر. فإذا جردنا الفرد المعين، زيد أو عمرو من جميع صفاته وتعييناته ومحمولاته تبقى لنا ماهيته أو جوهره الذي يشترك فيه مع جميع أفراد النوع بالتساوي؛ أما إذا جردناه من إنسانيته فلا يتبقى منه أي شيء. وأعتقد أن هذه المساواة كانت موضوع الصراع الأساسي بين العلمانيين والكنيسة، لا قضية فصل الدين عن الدولة فقط. لأن المساواة هي أساس الفصل، ولأنها النقيض الفعلي للامتيازات والمراتب، والعدالة هي تحقيقها الفعلي.
والثالث هو المواطنة التي تعني العضوية الكاملة في الدولة السياسية، أي في الدولة الوطنية أو القومية، ولا فرق. إذ تصير المواطنة هي العلاقة الأساسية التي تربط بين جميع مواطني الدولة المعنية، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية والطبقية وما إليها. ومن هنا تأتي أهمية مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، أو حياد الدولة الإيجابي إزاء جميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات والعقائد السياسية، وإزاء الانتماءات العرقية؛ لأن الدولة كائن سياسي وأخلاقي يعبر عما هو مشترك بين جميع مواطنيها، ولذلك يقال إن الدولة هي تجريد العمومية، وتحديد ذاتي للشعب. وهذا معنى قولي إنه لا معنى للعلمانية بلا محتواها القومي أو الوطني، بالمعنى الذي أشرت إليه قبلاً.
ولكن العلمانية ليست بلسماً لجميع الجراح ولا حلاً لجميع المشكلات، ولا سيما مشكلة الأقليات القومية التي أرى، على خطا ياسين الحافظ والياس مرقص، أن حلها النهائي يتوقف على النمو الديمقراطي في المجتمع المعني والدولة المعنية. وهنا تبرز الرابطة الضرورية بين العلمانية والديمقراطية، فليس ثمة ديمقراطية ولا يمكن أن يكون ثمة ديمقراطية بلا علمانية. العلمانية هي جذر الديمقراطية ونسغها الحي.
أما العلمانية التركية الهشة والمثلومة، فتفتقر إلى أركانها الأساسية: الإنسية والمساواة والمواطنة، ولم تندرج بعد في مشروع ديمقراطي تركي واضح المعالم، على الرغم من التحسن الذي شهدته السنوات القليلة الماضية، في سياق سعي تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوربي. والسبب، في اعتقادي يرجع إلى تأخر تركيا وتبعيتها الشديدة للمراكز الرأسمالية، وموقعها الهامشي في المنظومة الرأسمالية، وهيمنة المؤسسة العسكرية على مقدراتها السياسية. وأكاد أسمي ما حدث في تركيا منذ الثورة الكمالية غربنة، لا علمنة. ومع ذلك تقدمت تركيا على كثير من الدول العربية، بفضل "فصل الدين عن الدولة"، بكل ماله وما عليه. مشكلة العلمانية التركية هي البدء من النهاية، أي مما صارت إليه الدولة القومية في الغرب، على صعيد فصل الدين عن الدولة الذي كان في الغرب نتيجة لنمو متكامل في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقانية والسياسية والأخلاقية، ومنضبط بموقع الفئات الاجتماعية على سلم الإنتاج الاجتماعي، وحصة كل منها من الناتج القومي والثروة الوطنية وعوامل الإنتاج، وفي تركيا، كما في جميع البلدان المتأخرة، اختلال واضح في هذا المجال. وقد يصح وصف الكمالية في تركيا والناصرية في مصر بأن كلاً منهما كانت "ثورة من فوق" بتعبير ياسين الحافظ، وسمت الحياة العامة، ولا سيما الحياة السياسية، بميسم "القوة الثورية" التي هي الجيش والأمن. على أن الكمالية نمت وتطورت، بدعم الغرب ومؤازرته، بخلاف الناصرية.
دمشق: شباط، 2004
هفال يوسف، كاتب سوري مهتم بالشؤون الكوردية، وعضو في هيئة التحرير المشرفة على موقع مشروع ثروة.
[1] - وكان يمكن أن أضيف والجماعة الإثنية.
[2] راجع، جاد الكريم الجباعي، حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية، دار حوران، دمشق 1994 ، ص 20 وما بعدها.
[3] - أحيل القارئ هنا على كتاب خلدون حسن النقيب "الدولة التسلطية في المشرق العربي"الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية. وعلى سلسلة الكتب التي تناولت موضوع الدولة والمجتمع في مصر والمغرب العربية وفي المشرق العربية والجزيرة العربية، وكلها صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية. وعلى كتاب محمد كامل الخطيب "المسألة الشرقية، ما زال الرجل مريضاً".
[4] - تشير هذه الكلمة إلى تواضع ينمُّ عن خُلُقٍ رفيع، يفتقر إليه أغلب مثقفينا، ولعل في ذلك دلالة إلى: لماذا فكرت في محاورة هذا الرجل؟
[5] - على الرغم من أنَّ أبناء القومية العربية، الذين لا يوافقون على سياسات الأنظمة السياسية، لا يتحمّلون مسؤولية ما يحدث باسمهم، إلا أنني أتفق مع الأستاذ في هذه النقطة، لأنَّ اعتذاراً كهذا لن يعني اعترافاً بالذنب، بقدر ما سيعني إشهاراً للبراءة، مما يفتح الباب أمام مستقبل أفضل مبني على التسامح والتعايش، فموقف الجامعة العربية المشين، وسّع الهوة ورسّخ الكراهية. وبالتالي، فهو قدوة سيئة لمن يتطلع لغدٍ أفضل.
[6] - أرجو ألا يفهم من نفي صفة الوطنية عن الأحزاب الأيديولوجية أي معنى من معاني القدح والذم، أو التقليل من شأن هذه الأحزاب أو من شأن عضويتها. فليس للوطنية عندي أي معنى قيمي مستقل عن المعنى السياسيي، وعن المعنى الدلالي والاصطلاحي للكلمة، في ضوء المصفوفة النظرية التي أنطلق منها. فللوطنية عندي معنى العمومية، ولذلك أرى فيها صفة للدولة وتحديداً ذاتياً لجميع مواطنيها. ولا أعتقد أن أياً من مواطني الدولة الحديثة في حاجة إلى صك براءة وطنية من أحد. فصفة الوطنية التي أطلقها على الحزب السياسي كصفة الوطنية التي أطلقها على الثقافة حينما أتحدث عن ثقافة وطنية، أو على الصناعة، حينما أتحدث عن صناعة وطنية أو اقتصاد وطني.