Dienstag, August 28, 2007

محاورات حول المسألة الكوردية مع الأستاذ جاد الكريم الجباعي

محاورات حول المسألة الكوردية مع الأستاذ جاد الكريم الجباعي
إعداد: هفال يوسف
لأستاذ جاد الكريم الجباعي مفكر سوري معروف وناشط سياسي في لجان إحياء المجتمع المدني. له مؤلّّفات عدة، من بينها: "حرية الآخر: نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية"، و"المجتمع المدني هوية الاختلاف."
"كتبٌ مقدسة وجرحٌ في الهوية"محمود درويش
* عقدت بتاريخ 11/1/2004، ضمن فعاليات منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي مائدة مستديرة حول القضية الكردية في سورية بإدارتك، وأشرت حينها إلى أن الوعي الأيديولوجي بتياراته الثلاثة القومي والاشتراكي والإسلامي ينكر وجود مشكلة كردية في سورية، بما ينسجم مع الموقف الرسمي. وبحسب فهمي لكتاباتك فإن هذا الإنكار لا يعنيك، لأنك مهتم بمعطيات الواقع. سؤالي هو: كيف تعرِّف المسألة الكردية في سورية؟ وما هي معطياتها وأبعادها؟
** قبل الحديث عن الوعي الأيديولوجي، دعنا ننطلق في البداية من تحديد مقولة الوعي، بإزاء مقولة الوجود، أي مما سمي المسألة الفلسفية الأولى، مسألة أيهما أسبق أو أبدأ من الآخر؟ الوعي أم الوجود؟ وأيهما ينتج الآخر؟ الوعي أم الوجود؟ تقول البداهة إننا إزاء مقولتين، ومن ثم إزاء إجابتين ممكنتين: واحدة تقول بأولوية الوعي أو الفكر أو الروح، والثانية تقول بأولوية الوجود. وقد حددت هاتان الإجابتان تيارين في الفكر البشري متناقضين تناقضاً مطلقاً في هذه المسألة فقط، ونسبياً فيما عداها، وهذه النسبية هي ما تعنينا اليوم. لأن الوعي بالتعريف هو الوجود مدركاً على نحو ما ومحوَّلاً في الذهن، وليس بوسع أحد من أي من التيارين أن يدعي أنه بلغ درجة المطابقة بين الوعي والوجود، ومن ثم فإن وعي الإنسان وعلمه ناقصان أبداً، يلتبس فيهما الصواب بالخطأ.
ولعله من باب التجريد النظري الخالص أن نتحدث عن الوعي والوجود من دون مقولة الشغل أو العمل البشري الخلاق، العمل/المعرفة، فبالعمل ينتج الإنسان ذاته في العالم وفي التاريخ، ويتعرف عالمه ويستعيد موضوعيته في ذاته، أي في وعيه، مرة تلو مرة، ويبني صرح معارفه وعلومه، أو ينتج ثقافته شكلاً لوجوده في كل مرحلة من مراحل تطوره. ومن ثم فإن وعي جماعة ما مرتبط أوثق ارتباط وأشده بنمط إنتاج حياتها الاجتماعية، على جميع الصعد، الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وعلى صعيد البنى والتنظيمات والمؤسسات والعلاقات التي تقيمها لنفسها تعبيراً عن هويتها، أو تحديداً ذاتياً لوجودها. وإذا كنا لا نماري اليوم في واقع تأخر مجتمعاتنا، قياساً بالمجتمعات المتقدمة، فعلينا أن نعترف بتأخرها على صعيد الإنتاج الاجتماعي، بالمعنى الشامل للكلمة، ولا سيما على صعيد الوعي والفكر. وأعني بالإنتاج الاجتماعي: إنتاج الثروة المادية والثروة الروحية والتنظيمات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية بالتلازم الضروري، سببياً لا ميكانيكياً. ولما كانت الأيديولوجيات الكبرى القومية والاشتراكية والإسلامية قد طبعت حياتنا الثقافية والسياسية والأخلاقية بطابعها ووسمتها بسماتها، وأبرزها "الولاء والبراء" والتمامية والكمال واحتكار الحقيقة والاستبداد الديني والفكري والسياسي القائم على فكرة التجانس والنقاء، وعدم الاعتراف بأفرادية الواقع واختلاف عناصره ومكوناته، فضلاً عن انغلاقها وانقطاع علاقتها بالواقع، بات من الضروري نقد هذه الإيديولوجيات، ونقد الوعي الأيديولوجي بوجه عام ومعارضته بالوعي الواقعي، أي بالعودة إلى لحظة الأمية والصفحة البيضاء (بتعبير الياس مرقص)، والتحرر من جميع مسبقاتنا وقبلياتنا وقبَلياتنا ومطلقاتنا وثوابتنا القومية والثورية والدينية، لكي نتمكن من رؤية الواقع كما هو، لا كما نريده، ونكتشف منطقه الجدلي والإمكاني أو الاحتمالي.
أدَّعي أن الأيديولوجيات الكبرى التي أشرت إليها لا تعترف بوجود مشكلة كردية في سورية، لا لأنها متواطئة على الأكراد أو معادية لهم، بل لأن كلاً منها لا ترى الواقع إلا بمنظارها الخاص، أي بمنظار وعيها الحصري والإقصائي، وفي ضوء أهدافها وغاياتها، وبدلالة مسبقاتها ومطلقاتها، ولأنها جميعاً تنطلق من الهدف إلى الواقع، ومن الوعي الموروث غالباً إلى الوجود، ولأنها جميعاً لا تعترف بأفرادية الواقع ومعقولية العالم، ولا تعبأ بالمشكلات العيانية، وحين تفعل ذلك؛ فهي إما أن تستهين بها وإما أن تضخمها، فلا تلتمس لها حلولاً ناجعة. وحين أتحدث عن الوعي الأيديولوجي لا أستثني الكرد السوريين وغير السوريين، ودعنا لا نتحدث إلا عن الكرد السوريين، لا من قبيل تقليص القضية الكوردية أو تخفيضها، بل من قبيل الاعتراف بالوقائع العنيدة التي نجمت عن تقاسم الدول الكبرى لهذه المنطقة واحتلالها وإقامة دول "حديثة" فيها. ولعل استمرار هذه الوقائع حتى يومنا يكفي للنظر إليها على أنها حقائق واقعية لا بد من الانطلاق منها لتحديد معالم الحاضر وآفاق المستقبل. وإذا كان العرب والكورد قد خضعوا معاً لعملية التقاسم والتقسيم والاحتلال والاستقلال، فمن غير المنطقي قول بعضهم إن العرب يحتلون بعضاً من "وطن" الكورد التاريخي، أو قول بعض العرب إن الأكراد خطر على العرب لا يقل عن خطر إسرائيل. وأود أن أشير هنا إلى أن العرب والكورد يفتقرون على السواء إلى وعي تاريخي، وإلى أن فكرة الماضي تتطابق لديهم مع فكرة التاريخ، وإلى أنهم ينطلقون في تحديد ذواتهم من مقولة الأصل لا من مقولة الهوية، وشتان ما بين الأصل /العرق والهوية/التاريخ، ويتغنون بالأصالة ويرفعونها إلى مصاف المقدس، فتغيب عن وعيهم الأصالوي فكرة الإنسان وفكرة الحرية، وتغيب معها فكرة الوطن/الدولة وفكرة المواطنة.
يتطلع العرب، ويتطلع الكورد مثلهم إلى "وحدة قومية" و "دولة قومية"، ولعلهم يرغبون في أن تكون هذه "الدولة القومية" نقية عرقياً، وأقول هذه الدولة القومية؛ لأنها حاضرة في الوعي الأيديولوجي كأنها في متناول اليد، ويستندون في ذلك إلى مشروعية الماضي والتراث والأصالة، بما هي أهم مقومات الوعي القومي التقليدي والرومانسي. والتطلع والرغبة مشروعان كلاهما، ولكن السؤال هو: هل هذان التطلع والرغبة من ممكنات الواقع؟ ليس لعاقل يعترف باحتمالية الواقع وبـ "خصوبة اللامتوقع" أن ينفي ذلك؛ ولكن السؤال يتخطى حدود المنطق الصوري والفكر المجرد إلى منطق الواقع ومعقولية العالم، ونسبة القوى الدافعة في هذا الاتجاه إلى قوى العطالة والممانعة، لا على الصعيد المحلي فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ولما كنت من الذين يقولون إن الوحدة العربية ممكنة، فإنني لا أنظر إلى المشروع الوحدوي إلا بوصفه مشروعاً ديمقراطياً مرتبطاً بالمصالح العيانية لمختلف الفئات الاجتماعية، وأرى من ثم أن المشكلة الكوردية في سورية أو في العراق جزء من المسألة الديمقراطية. فبقدر ما تعمل الأكثرية العربية على حل "مسألة الأقليات القومية" حلاً ديمقراطياً، وعلى حل "مسألة الأقليات الدينية والمذهبية" حلاً علمانياً يتقدم مشروعها الوحدوي، إذا كان لا يزال هناك مشروع من هذا النوع حقاً. وأميل إلى القول إن المشروع الوحدوي العربي مرتبط أوثق ارتباط وأشده بحل مسألة الأقليات بوجه عام؛ ومسألة الجماعات الإثنية بوجه خاص، على نحو يمكِّن هذه الأخيرة من التمتع بجميع حقوقها المدنية والسياسية والثقافية، بما في ذلك حق الانفصال، وقد شبهه لينين بحق الطلاق الذي لا يعني وجوب الطلاق. إن حق الانفصال الذي يجب الاعتراف به اعترافاً مبدئياً ونهائياً هو حرية الاندماج، على ألا يفهم من الاندماج أي معنى من معاني الصهر والتذويب والتمثل وما إليها. الاندماج الوطني هو بالأحرى الوحدة الوطنية مفهومة فهماً صحيحاً على أنها وحدة التعدد والاختلاف. القاعدة الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الحياة الاجتماعية والسياسية هي الحرية؛ وفي ضوء هذه القاعدة أو هذا المبدأ يجب النظر إلى المسألة القومية العربية أو الكوردية أو غيرها.
إذاً، المشكلة الكوردية أو القضية الكوردية في سورية جزء من المسألة الديمقراطية، وقضية أساسية من قضايا الدولة الوطنية الحديثة، ولذلك لا أرى فيها، اليوم، سوى قضية وطنية عامة لا تخص المواطنين الكورد وحدهم، بل تخص جميع المواطنين السوريين كغيرها من القضايا الوطنية، كما أفترض، وأنا أعلم أن الكثرة الكاثرة من المواطنين السوريين عرباً وأكراداً لا يرونها كذلك، لأسباب تتعلق ببنية الوعي الاجتماعي وتأثيرات الأيديولوجيات الكبرى فيه، ولا سيما الأيديولوجية القومية. والرهان التاريخي، في نظري معقود على تقدم الوعي الاجتماعي وارتقائة من الجزئية والحصرية إلى الكلية والعمومية، أي من وعي ديني ومذهبي ومللي وعشائري وجهوي وأقوامي إلى وعي وطني ديمقراطي مفتوح على أفق إنساني؛ ولتغيير واقع ما لا بد من دحض وعيه أولاً، وإعادة بنائة على الحداثة، ولا سيما قيم الشغل والإنتاج الاجتماعي الذي يحدد سائر أشكال الوجود الاجتماعي، في نهاية المطاف، وعلى مبدأ المواطنة وحرية الفرد وحقوق الإنسان وسيادة القانون وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وعلى مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون.
وقد أشرت من قبل إلى أن هذه المشكلة مشكلة محلية ذات بعد إقليمي يتعلق بالجغرافية السياسية لعدة دول "ذات سيادة" لا تقوم أي منها، حتى يومنا، على مبدأ سيادة الشعب، ولذلك يتعرض مواطنوها، ولا سيما الأكراد منهم، لضروب متفاوتة من التمييز والاضطهاد والعسف. وما زلت أعتقد أن التحولات الديمقراطية في هذه الدول لا بد أن تحمل حلولاً مناسبة لهذه المشكلة تقررها شعوب هذه البلدان، التي ترجع معظم مشكلاتها الداخلية إلى نقص اندماجها الوطني، وافتقار كل منها إلى حقل سياسي مشترك بين جميع مواطنيها وجميع فئاتها الاجتماعية، ولا تزال السياسة تمارس فيها على أنها حرب، أو نزاع على السلطة من أجل "الغنيمة والعقيدة والعشيرة"، وعلى "ذروة المشروعية العليا"، الدينية أو القومية أو الثورية التي تسوغ ذلك. ولهذا كانت القوة، ولا تزال، هي التي تقرر الحقوق المدنية والسياسية وتحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية، إذ "لكلٍّ من الحق بقدر ما له من القوة". فلا بد، وهذه الحال، من انتقال مبدأ العلاقات الاجتماعية والسياسية من سياسة القوة إلى قوة السياسة. والسياسة بالتعريف هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية مدنية واعية وهادفة تعبر عما هو مشترك بين جميع مواطني الدولة وفئاتها الاجتماعية، وعما هو مشترك بين الدول والشعوب والأمم. فهي، من ثم، جملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات ملقاة على عاتق مواطن حر هو عضو في الدولة السياسية، والعضوية في الدولة تعني المشاركة والمسؤولية. ولا تنفصل السياسة عن مبدأ سيادة القانون على الصعيدين المحلي والدولي.
ولعل للمشكلة الكوردية في سورية سمات خاصة تتعلق بانتشارهم على مساحة واسعة من سورية السياسية، وتتركز كتلتهم الأساسية في ثلاث محافظات هي الحسكة وحلب ودمشق، ولا يؤلفون في كل منها سوى نسبة قليلة من عدد السكان، وليس هناك إحصاءات دقيقة يعتدُّ بها في هذا المجال. ومنذ قيام الجمهورية السورية كانوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والسياسي السوري، ولم يكونوا يتمايزون من غيرهم من المواطنين السوريين، ولم تكن هناك أي سياسات تمييزية إزاءهم، حتى أواخر خمسينات القرن الماضي، حين صعد المد القومي العربي. وقبل تأسيس أول حزب سياسي كردي (الحزب الديمقراطي الكردي) كانت نخبتهم الثقافية والسياسية تتوزع في الأحزاب السياسية السورية، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي، وتسلم عدد منهم مناصب عليا في الجيش والشرطة والإدارة العامة، بما فيها رئاسة الجمهورية من دون أن يثير ذلك أي حساسية "قومية". وكان لمثقفيهم ولا يزال لهم أثر مهم في الثقافة الوطنية، وليس بوسعنا أن نعدهم سوى مثقفين سوريين. وأعتقد أن تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي كان تعبيراً مبكراً عن بدايات تشظي الحقل السياسي الوطني الذي بلغ ذروته أواخر سبعينات القرن الماضي، وقد عبرت عن ذلك الانشقاقات التي أصابت جميع الأحزاب السياسية في سورية، وكان أولها انشقاق حزب البعث العربي الاشتراكي. ولذلك أرى في هذه المشكلة مظهراً من مظاهر تشظي الحقل السياسي الوطني الذي صارت معه الدولة، دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد، دولة جزء من المجتمع، لا دولة المجتمع. ولا بد هنا من الإشارة إلى ثلاث محطات أساسية فاقمت المشكلة الكردية: أولها الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي حرم بموجبه عدد كبير من المواطنين الأكراد من حق الجنسية، وثانيتها سياسة التعريب و "الحزام العربي" التي انتهجت منذ أن استولى حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة، والمحطة الثالثة هي تحول الدولة تدريجياً إلى نوع من "دولة تسلطية" وغياب مبدأ المواطنة وسيادة القانون وسيادة الشعب، وإدماج جميع مجالات الحياة الاجتماعية في مجال واحد هو مجال السلطة ذات الطابع الأمني الخالص. تضاف إلى ذلك تأثيرات الحرب المفتوحة التي شنت على الأكراد في كل من تركيا والعراق، ولا تزال تداعياتها مستمرة إلى يومنا، فكان من البديهي أن يتعاطف الكورد السوريون مع بني قومهم، وأن تتسرب بعض مفردات الخطاب السياسي، في تينك الدولتين، إلى الخطاب السياسي للأحزاب الكردية التي تشظت هي الأخرى، في مناخ التشظي والانقسام، حتى بلغ عددها نحو دزينة من الأحزاب. وفي اعتقادي أن الظاهرة الأبرز والأهم في الحياة السياسية السورية هي ظاهرة التشظي، ولم نولها بعد الأهمية التي تستحق. وقد كنت، ولا أزال، أميل إلى تشبيهها بنظيرتها في العصور المملوكية العثمانية. وأعتقد أن ما يسميه القوميون العرب تراثهم القومي والحضاري هو، في معظمه، تراث تلك العصور. منطق الانحطاط واحد في جميع العصور.
ولا بد أن يتفهم المرء جميع محاولات توكيد الذات في أوساط الكورد إزاء "القومية" الأكبر في البلاد، وتفهم جميع مظاهر توثيق اللحمة الداخلية، اللغوية والثقافية، لإنتاج "هوية كوردية"، هي بالأحرى أزمة هوية أو عقدة هوية، لدى الكورد والعرب على السواء، وإحدى تجليات الأزمة الاجتماعية السياسية العامة التي أنتجت الشمولية والاستبداد والتعصب والانغلاق؛ لأن الهوية الفعلية الحية لجماعة من الجماعات، أو لأمة من الأمم، هي ما تنتجه هذه الجماعة أو هذه الأمة على الصعيدين المادي والروحي. ولا بد من إيلاء هذه المسالة، مسألة الهوية، الأهمية التي تستحق، في سياق تطلعنا جميعاً، عرباً وأكراداً، إلى وطن حر ودولة حق وقانون، وفي سياق تطلعنا المشترك إلى إنتاج هوية وطنية قوامها التعدد والاختلاف اللذان يثريان حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وينميان العناصر الديمقراطية فيها.
* أتفق معك حين تتحدث عن الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وتسوية تاريخية يربح فيها الجميع. ما هي أسس هذا العقد الاجتماعي الجديد، وما هي مقوماته؟ وما مدى إمكانية تحقيق هذه التسوية التاريخية؟
**العقد الاجتماعي، هو بالأحرى تجريد نظري يحيل على واقع، أو مفهمة بعدية لواقع يتوفر على نوع من الاندماج الوطني، أو قراءة استباقية أو استشرافية لممكنات واقع يتوفر على إمكانية الاندماج، أي إمكانية بناء مجتمع مدني ودولة وطنية. وقد أوضحت في كتابي الأخير: "المجتمع المدني هوية الاختلاف" أن الاختلاف هو ما يفرض الحاجة إلى العقد الاجتماعي، أو ما يجعل العقد الاجتماعي ضرورياً، والتماثل في الإنسانية والمواطنة هو ما يجعل العقد الاجتماعي ممكناً. ومن ثم؛ فإن جدل التماثل والاختلاف، الذي يحكم عملية بناء المجتمع المدني والدولة الوطنية، هو مضمون العقد الاجتماعي. ولكي يكون الكلام أكثر وضوحاً، أدعو إلى إنتاج وطنية سورية جديدة قوامها تحرير المجتمع من النظام الشمولي، وإطلاق فاعليته الإنتاجية في جميع مجالات الحياة، وإلى استقلال كل من مجالات الحياة الاجتماعية: الاقتصادية والسياسية والثقافية استقلالاً نسبياً، لأن هذا الاستقلال هو الضمانة الموضوعية للحقوق المدنية والحريات الأساسية، وهو الأساس الموضوعي الذي يقوم عليه مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات، وإلى إعادة بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية على مبدأ المواطنة، لا على مبدأ "العصبية" كما هي الحال اليوم.
وأعني بالتسوية التاريخية: توافق جميع الفئات الاجتماعية وتمثيلاتها الثقافية والسياسية على نظام عام يعبر عنه دستور جديد للبلاد، يعيد الاعتبار لعمومية الدولة ومبدأ المواطنة وسيادة القانون وتساوي جميع المواطنين أمامه بلا استثناء ولا تمييز. فقد كنت، ولا أزال، أرى في الاستبداد إهانة للكرامة البشرية، وأن الاستبداد يقبع في أساس جميع مشكلاتنا. وقد بينت في أكثر من مكان أن الاحتكار، "احتكار السلطة والثروة والقوة" (بتعبير خلدون حسن النقيب)، واحتكار الحقيقة واحتكار "الوطنية"، هو أساس الاستبداد. ولذلك لا أنظر إلى الاستبداد على أنه مجرد استبداد سياسي؛ الاستبداد السياسي هو النتيجة الأخيرة أو المحصلة النهائية لجميع الاحتكارات التي أشرت إليها. هذه الاحتكارات هي التي جعلت من جميع مجالات الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً: هو مجال السلطة. وقلصت مجال الدولة، أي مجال الكلية والعمومية، حتى تطابق مع مجال السلطة، مجال الجزئية الحصرية.
وأرى، من ثم، أن هذه التسوية التاريخية ممكنة، وأن عناصرها تتراكم في ثنايا حياتنا العامة. وسورية اليوم على مفترق، فإما أن تذهب في هذا الاتجاه الآمن الذي يربح فيه الجميع، وإما أن تذهب إلى الكارثة. وعلينا جميعاً أن نعمل على تلافي الكارثة. والمسألة، كما ترى، تتجاوز القضية الكردية إلى القضية الوطنية. وقد كنت، ولا أزال، أدعو إلى إعادة تعريف الوطنية، وتحرير مفهومها من طابعه الأيديولوجي والقيمي الذي لابسه منذ بدايات المرحلة الكولونيالية، وعززه خطاب "حركة التحرر الوطني" الذي حل جميع المشكلات في مقولة الصراع مع الإمبريالية والصهيونية والرجعية.
في ضوء الرؤية الوطنية الديمقراطية، ونسق المفاهيم الذي يؤسسها، أرى أن قضية المرأة وقضية الأقليات من أهم روائز الوعي الوطني الديمقراطي.
العقد الاجتماعي هو عقد طوعي بين أفراد أحرار أعتقهم العمل من روابطهم الأولية، وباتوا يتطلعون إلى أن يصيروا مواطنين متساوين أمام القانون في دولة سياسية، هي دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، وهي، من ثم، وطنهم السياسي وموطن اعتزازهم الأدبي وتجلي ماهيتهم. والجدل المنشئ لهذا العقد هو التعارض بين الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته الفردية وأهوائه ورغباته ونزواته، والمواطن الذي يتطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة، ويتعلق بقيم الخير والحق والجمال. وهو، في واقعه الفعلي، انتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، أي من حالة التبعية إلى الحرية. ويبدو لي أن الفكر السياسي، عندنا، لا يزال يجهل، أو يتجاهل، العلاقة الضرورية، المنطقية والتاريخية، بين الوطن والدولة السياسية.
* تحدثت في كتابك "حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية" عن ثلاثة أبعاد للهوية: علاقة الذات بذاتها، وعلاقة الذات بالموضوع، وعلاقة الـ أنا بالآخر. سأتوقف عند البعد الثالث لأسقطه على جماعة إثنية مهيمِنة "العرب"، وأخرى مهيمَن عليها "الكرد". فإذا كانت الهوية تُبنى على جدلية التماثل والاختلاف؛ أفلا ترى أن علاقة الهيمنة تشوه كلتا الثقافتين؟ والسؤال: ما هي السبل التي يمكن أن تؤدي إلى تأسيس محيط مشترك، يحتضن التنوع الثقافي بعيداً عن الممارسات الإلغائية القائمة على القسر والإكراه، كالتعريب مثلاً؟
** أجل للهوية، كما أعتقد، ثلاثة أبعاد: أولها علاقة الذات بذاتها، أي كيف تعرِّف جماعة ما نفسها؟ وكيف تعبِّر عن ذلك؟ وكيف تعي تاريخها؟ وكيف تنظر إلى تراثها؟ وكيف تحدد موقعها في العالم وفي تاريخه؟ والثاني هو علاقة الذات بالموضوع؛ أي علاقتها بواقعها وعالمها الذي يفترض أنه من إنتاجها، ودرجة الاستلاب الذي تعيشه؛ سواء في الطبيعة، أو في الدين، أو في "صنمية السلعة"، أو في "صنمية السلطة"؛ أي في التبعية والاستبداد السياسي، ونمط إنتاجها لحياتها في جميع المجالات. والثالث هو علاقتها بالآخر، وهذه العلاقة هي محصلة العلاقتين السابقتين وتتويجهما، وإذا أردنا أن نحكم على تقدم جماعة ما، أو تأخرها، فإنه يكفي أن ننظر في هذا البعد الثالث، فهو ينطوي بداهة على البعدين الآخرين.
الهوية بالتعريف هي وعي الذات، وقد أشرت إلى علاقة الوعي بالوجود، أو علاقة الذات بالموضوع الذي هو ذات وحياة، وليس صلصالاً طيِّعاً تشكِّله الذات كما ترغب أو تريد، فلكي تطيعنا الطبيعة يجب أن نطيعها، ولكي يطيعنا الواقع يجب أن نطيعه. هذا المبدأ لا ينطبق على التقانة فقط، بل على سائر أشكال العمل البشري، ولا سيما السياسي منه، وما التقانة سوى دمج العلم بالعمل. وما من شك في أن لوعي الذات أثراً مهماً، بل حاسماً، في العمل والإنتاج الاجتماعي. البشر ينتجون ذواتهم في العالم وفي التاريخ، لا سلعاً للاستهلاك النهائي أو للتبادل فحسب، بل ثقافة وقيماً أخلاقية وعلاقات وبنى وتنظيمات اجتماعية وسياسية، أهمها الدولة، ثم يستعيدون موضوعية العالم في ذواتهم، أي في وعيهم، مرة تلو مرة،. ولذلك صرت أكثر ميلاً إلى القول: إن هوية جماعة ما، أو أمة ما، هي ما تنتجه هذه الأمة أو تلك الجماعة على الصعيدين المادي والروحي. هذا التحديد يضع الفرق بين هوية خاوية وميتة وأخرى حية، بين هوية ناجزة وثابته أو ساكنة، وأخرى تبنى كل يوم ولا تكتمل، لأنها عملية تاريخية، أي جدلية، مستمرة.
كل فرد على الإطلاق هو أنا لذاته وآخر لغيره، وكذلك كل جماعة وكل أمة وكل شعب وكل دولة. ليس هناك أنا، ولا يمكن أن يكون، بغير الآخر؛ الآخر شرط وجود الـ أنا، الآخرية والغيرية شرط وجود الأنَوية. الهوية الفعلية هي وحدة الأنا والآخر الجدلية التي يغدو معها الآخر هو أنا، والأنا هو الآخر؛ ولذلك أرى أن الديمقراطية هي حرية الآخر أولاً. ذلكم هو منطق العلاقة. كل علاقة بين شخصين أو بين عدة أشخاص، وكل علاقة بين جماعتين أو أمتين أو شعبين، أو بين عدة جماعات وشعوب وأمم، تؤدي دوماً إلى تغير ما في طرفيها أو في أطرافها جميعاً، وذلك هو منطق المجموعات الحرة المتشكلَّة في الرياضيات، وهو، في اعتقادي، منطق المجتمع المدني.
الهيمنة والقهر والاستبداد إهانة للكرامة الإنسانية، وإهانة للكرامة الوطنية، سواءٌ في ذلك: المهيمنون والمهيمن عليهم، المستبدون والمستبد بهم. والعلاقات القائمة على هذه الأسس محكومة بجدلية القهر، وجدلية الظلم، إذ الظالم هو المظلوم، والسيد هو العبد؛ فمن يظلم الآخرين إنما يظلم ماهيته الإنسانية ذاتها، ويقوض شروط حريته واستقلاله وسعادته، ويقتل النوازع الإنسانية: نوازع الحرية والمساواة والعدالة، وقيم الحق والخير والجمال في ذاته، قبل أن يقتلها في الآخر. المهيمن والمهيمن عليه مريضان كلاهما، الأول بعقدة التفوق والاستعلاء والثاني بعقدة الدونية والضعف، لذلك ينتجان معاً ثقافة مشوهة تخطئ في كل مرة الجذر الروحي للثقافة، أعني الروح الإنساني، فتعيد إنتاج التعصب والتعصب المضاد، والعنف والعنف المضاد، والتعصب والعنف صنوان يعبران كلاهما عن انحطاط روحي وأخلاقي وثقافي وسياسي. وتخطئ في كل مرة أيضاً الجذر الذي يتغذى منه الإبداع الثقافي: أي الحرية. المهيمن والهيمن عليه معاً لا يعرفان الحرية، الأول لأنه مستبد، والثاني لأنه مشغول بالتحرر من الاستبداد، لا بالحرية. وشتان بين الحرية والتحرر. وقبل أن نستنبت الحرية، وننميها في الوعي والضمير، لن يعدو تحررنا من الاستبداد كونه انتقالاً من استبداد إلى استبداد، ومن تبعية إلى تبعية ومن نير إلى نير. ولا أغالي إذا قلت: إن قضية الحرية كانت ولا تزال غائبة عن الوعي الاجتماعي بوجه عام، وعن الوعي السياسي بوجه خاص. والحر بالتعريف هو من لا يستعبد غيره ومن لا يضطهد غيره ومن لا يهيمن على غيره، لأنه لا يقبل أن يكون عبداً أو تابعاً أو مضطهداً. وقبل أن يصير السوريون، العرب والأكراد وغيرهم من المواطنين، أحراراً بهذا المعنى، لا يمكن أن تقوم لهم دولة وطنية، ولا يمكن أن يرتقوا من مستوى الجماعات المغلقة المتحاجزة إلى مستوى الشعب. ولن يكون العرب السوريون أحراراً ما لم يكن مواطنوهم الكورد وغيرهم من أبناء "الأقليات" كذلك.
وإذا كان ثم صواب ما في العلاقة المفترضة بين الوعي والوجود، بين المعرفة والعمل، بين الفكر والواقع، فإننا في أمس الحاجة إلى وعي نقدي، أو فكر نقدي، يعيد بناء وعينا على مبدأ الإنسان ومطلب الحرية، وعلى الاعتراف المبدئي والنهائي بأفرادية الواقع ومعقولية العالم وتعدديته واختلاف مكوناته؛ أي إننا في أمس الحاجة إلى نوع من "عصر أنوار" يعتمد على الإنجاز الإنساني، ويسهم في المجهود العالمي لترقيته وتجاوزه. وبكلمات أخرى: إننا في أمس الحاجة إلى وعي كوني وتاريخي عصري وحديث وديمقراطي، بكل ما تشتمل عليه الديمقراطية من عناصر إنسية وعقلانية وعلمانية. من دون ذلك لا أرى إمكانية جدية لإنتاج مناخ تعايشي يغتني بثروة التنوع والاختلاف، ويقيم الحد على الممارسات الإقصائية والإلغائية، التي هي نسق مولد للعسف والعنف والإرهاب.
* تقول: "إن الدولة القومية تتوفر على إمكانات ديمقراطية، بحكم طبيعتها، شريطة أن تصون الأمة حقوق الأقليات القومية وفي مقدمها الاستقلال الذاتي وحق الانفصال اللذين يعنيان في الطرف المقابل حرية التعايش والاندماج". ثم تكمل قائلاً: "ولعل (تعريب) الثقافات الأقوامية وتعميمها هو ضمانة تجاوزها لذاتها وإزالة صفة الأقوامية عنها". لنقل إن الأمر قد التبس علي؛ فأنت تؤيد حقوق الأقليات القومية، بما في ذلك حق الانفصال، من جهة؛ وتدعو إلى تعريب الثقافات الأقوامية، من جهة أخرى. هل ترى التناقض في طرفي المعادلة؟
** أشكرك على هذا السؤال، فقد عدت إلى النص الذي استقيتَ منه سؤالك، وهو نص محاضرة ألقيتها في المركز الثقافي بحمص، منذ نحو خمسة عشر عاماً، فلم أجد في روح النص ما يشي بأي معنى من معاني "تعريب الأقليات" أو تعريب ثقافاتها، سوى معنى ترجمة هذه الثقافات إلى العربية، لكي تكون جزءاً من الثقافة العربية، أسوة بما يترجم من اللغات الأجنبية. وأنا وحدي أتحمل مسؤولية الالتباس الذي توحي به كلمة "تعريب". فأنا لست مع الحقوق الثقافية للكورد أو لغيرهم من الجماعات اللغوية والثقافية والإثنية فقط، بل أرى أن على العرب أن يهتموا بهذه الثقافات اهتمامهم بثقافتهم، وأن يوفروا لها جميع شروط الحرية والاستقلال والنمو والتقدم والازهار، لإنتاج ثقافة وطنية توحِّد ما يمكن أن تفرقه "السياسة" والأيديولوجيات ما قبل الوطنية. وقد جاء في ذلك النص ما يلي: "الهوية جملة من العلاقات والروابط العقلية أي الضرورية والواقعية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية والإنسانية، نسجها تطور تاريخي محدد في الزمان والمكان، تذهب في ثلاثة أبعاد هي: علاقة الذات بذاتها، وتنطوي على النرجسية والاستعلاء وعلى الشعور بالتمايز والتفوق ويقابلها عقدة الاضطهاد والشعور بالدونية. وعلاقة الذات بالموضوع، موضوع العمل والمعرفة أي بالعالم الطبيعي والاجتماعي، وتنطوي على الاستلاب وتقابله الحرية، وعلاقة الأنا بالآخر وتنطوي على التبعية والانقياد والمحاكاة والاقتداء... ويقابلها الاستقلال والذاتية. وهي في هذه الحيثيات جميعها وحدة الوعي والوجود، الفكر والواقع، والتماثل والاختلاف، والوحدة والتعدد، المؤسسة جميعها على مبدأ النفي حامل فكرة التاريخ ومفهوم التقدم".
و "من أهم المسائل المتعلقة بإشكالية الهوية مسألة الانتماء. ولاسيما الانتماء القومي (= الوطني)؛ بوصفه الانتماء الأحدث في مسار التطور التاريخي على الصعيد العالمي، والذي يشكل ضرباَ من قطيعة مع الانتماءات ما قبل القومية (أو ما قبل الوطنية)، من دون أن يلغيها أو يحذفها. فالقطيعة، هنا، هي بالأحرى عملية نفي ديالكتية تعيد تنظيم العلاقات بين مختلف الانتماءات في دائرة الانتماء القومي، وتلك الانتماءات الواقعية والضرورية هي قوام الانتماء القومي، وإلا كان الانتماء القومي مساحة فارغة أو هوة تتهاوى فيها العناصر المكونة للأمة. إن مفهوم الهوية في الإشكالية التقليدية، بوصفه نافياً للخصوصية والفردية، ينتج مفهوماً تقليدياً للانتماء ينفي سائر الانتماءات الواقعية والضرورية. فمفهوم الانتماء وثيق الصلة بمفهوم الهوية، لأنه تعبيره الواقعي وتجسيده العياني.
ولذا نراه يكشف بجلاء عن جدلية التماثل والاختلاف والوحدة والتعدد. فنحن، مثلاً، متماثلون في الكون البشري والماهية الإنسانية تماثلاً تاماً يقيم هويتنا الحقيقية التي لا تستطيع أن تنفيها أية هوية أخرى، ومتماثلون أيضاً في كون كل واحد منا هو أنا وآخر في الوقت نفسه، ومتماثلون في انتمائنا .. إلى وطننا الصغير سورية... لكن كل واحد منا مختلف عن الآخرين في سلسلة من الانتماءات الأخرى: الانتماء إلى الأسرة والعائلة الممتدة، أو العشيرة والحي، أو القرية والمدينة والمنطقة، والدين والمذهب والحزب السياسي والنقابة والمهنة والفئة الاجتماعية والطبقة[1] الخ. وكل هذه الانتماءات، كما تلاحظون، واقعية وضرورية؛ فهل ينفي بعضها بعضاً بالضرورة؟ أو هل يمكن أن ينفي أحدها ما عداه؟ إن مفهوم الانتماء، هنا، ينبثق عن مفهوم الاختلاف والمغايرة الذي يجعل من الهوية هويات أو جمع هويات، غير حسابي بالطبع، وصولاً إلى هوية الهويات، التي هي نتاج عمليات حذف وتقليص عقلية لجميع الصفات والتعيينات، سوى صفة بعينها: هي محور الهوية، لا قوامها. لأن قوام الهوية هو التعدد والاختلاف والتعارض... وهذا الحذف وذلك التقليص ضروريان، لأنَّ اللغة، أية لغة، لا تعبِّر إلا عن الكلي. فاللغة تنتمي إلى الفكر، وإلى الكلي، وهذا الانتماء هو أصل التوتر والتنابذ بين الفكر والواقع. فنحن نعبر دائماَ عن المفرد المعين بالكلي. وهذه المسألة مؤكدة بقوة في اللغة بوجه عام، وفي لغتنا العربية بوجه خاص. إذ الصفة لا تستنفد الموصوف، والخبر لا يستنفد المبتدأ، ولذلك تتعدد الصفات والأخبار والأحوال أيضاً في النحو العربي: منطق اللغة العربية. وبهذا المعنى تقترب مقولة الانتماء من مفهوم الانتماء الرياضي إلى مالا نهاية له من المجموعات الحرة التشكُّلية، وتقترب كذلك العلاقة بين الانتماءات المختلفة من علاقة الاحتواء الرياضية، والتعبير الرياضي عن مفهوم الاستغراق المنطقي. فالانتماء إلى حزب سياسي محتوى، بالضرورة، في الانتماء القومي. والانتماء القومي يحتوي على سائر الانتماءات المختلفة للأفراد والجماعات والفئات والطبقات. فما وجه التناقض مثلاً في كون أحدنا قومياً ديمقراطياً ووطنياً سورياً ومسلماً، أو مسيحياً، مؤمناً وعلمانياً وعضواً في هذا الحزب أو تلك النقابة... الخ؟
ولكن للمسألة وجهٌ آخر عندما ننتقل من رحاب المجتمع المدني إلى المجال السياسي، ولا سيما إلى مجال الدولة، بوصفها تعبيراً عن الشأن العام وعن الكل الاجتماعي، وبوصفها التعبير السياسي والحقوقي عن المجتمع المدني، وعنوان وحدته واندماجه القومي والاجتماعي، أو بوصفها الوطن السياسي لجميع المواطنين (بقدر ما تكون دولة حق وقانون ). أي بوصفها نوعاً من الارتقاء من الفردي والخاص إلى العام، ... هذا الارتقاء يضع الدولة في مصاف الكليات. فهل يعقل مع ذلك أن تكون من النمط العشائري أو المذهبي أو الديني أو الطبقي أو النخبوي ( الأوليغارشي )، وتحافظ على كونها الشأن العام وميدان الحق والقانون؟"[2]
لقد حاولت، منذ ذلك الحين، أن أعطي مفاهيم الأمة والقومية والدولة القومية معاني جديدة، غير المعاني التي درج عليها الفكر القومي التقليدي والرومانسي، مستفيداً، في ذلك، من فكر النهضة والتنوير في الفكر الغربي، ومن كتابات المفكر الراحل الياس مرقص خاصة. فمفهوم الأمة يحيل عندي على المجتمع المدني، لا على أصل عرقي لهذه الجماعة أو تلك. وحين أصف الأمة بأنها عربية، فذلك على وجه التغليب، لا على وجه الحصر والقصر والإلغاء، أو الإقصاء والاستبعاد. كما أن مفهوم الأمة يتجلى سياسياً وحقوقياً في الدولة، لذلك قد يستهجن أصدقائي من الكورد حسباني إياهم في عداد الأمة، بوصفهم أعضاء كاملي العضوية في المجتمع المدني والدولة السياسية. ولذلك صرت ميالاً إلى استعمال مفهوم الدولة الوطنية، بدلاً من مفهوم الدولة القومية، وعلى نحو يطابق مفهوم الدولة القومية. والقومية عندي، كالوطنية، صفة للدولة وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها. الدولة لا تبدو، ولا يجوز أن تبدو، لمواطينها دولة قومية، بل دولة حق وقانون فحسب. أما لغير مواطنيها فتبدو دولة قومية، ولا تستطيع أن تبدو لهؤلاء إلا بصفتها هذه، أي دولة قومية. وهذه المعاني غير مقبولة من سائر القوميين حتى يومنا. وهذا يحيل على صعوبة زحزحة المفاهيم التقليدية، ولا سيما حين لا تتاح لذلك فرص مناسبة، في ظل احتكار الثقافة والسياسة ووسائل الإعلام، كما هي الحال عندنا.
أجل، تتوفر الدولة القومية، بالمعنى الذي أشرت إليه، على إمكانات ديمقراطية، بحكم طبيعتها، أي بحكم كونها تعبيراً عن الكلية الاجتماعية وتحديداً ذاتياً للشعب، وبحكم كون الكلية الاجتماعية قائمة على التعدد والاختلاف والتعارض، فلولا التعدد والاختلاف وتعارض المصالح لما كان هناك حاجة إلى الديمقراطية. الديمقراطية نظام عام، ونمط تفكير، ونمط حياة، تنتجه الأمة المعنية، أو المجتمع المعني، وليس عنصراً برانياً يزرع في جسم الأمة أو المجتمع من الخارج، وليست مجرد انتخابات وتمثيل برلماني، قد يكون تمثيل عشائر وأديان ومذاهب وإثنيات. وفي هذا السياق لا بد من تمييز القومية من "الحركة القومية"؛ أي من الأحزاب السياسيية التي تتبنى أيديولوجية قومية، كحزب البعث العربي الاشتراكي أو الحركة الناصرية، على سبيل المثال. ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن في كل نزعة قومية عنصراً استبدادياً وفاشياً، وإلا كيف نفسر النازية والفاشية وغيرها من تجارب "الاشتراكية القومية"؟ القومية، بالمعنى الدارج، تنوس بين هذين الحدين: الديمقراطية والاستبداد. والسيرورة الديمقراطية تتوقف على جملة من العوامل، لعل من أهمها إعادة بناء مفاهيم الأمة والقومية والدولة القومية على أسس جديدة، غير تلك التي بني عليها "الفكر القومي" التقليدي والرومانسي. وهذا العامل الثقافي لا يقل أهمية، في نظري، عن العوامل المادية الأخرى. وفي هذا السياق يبدو لي ضرورياً إعادة تعريف مشروع الحداثة، وإعادة إنتاجه، في ضوء التقدم الحاصل في جميع الميادين. وهذا التقدم محرز عام لبني الإنسان.
* بدا لي طرحك حول الأكثرية والأقلية شبيهاً بعقيدة أنطون سعادة، وخصوصاً حين تتحدث عن "اندماج قومي". ماذا تقصد بالاندماج القومي؟ وكيف يمكن لهذا الاندماج أن يرتبط بالحرية؟
** أعتقد أن المفكر الراحل أنطون سعادة أول من تحدث، من العرب المعاصرين، عن القومية الاجتماعية، أي عن العلاقة بين الأمة السورية والمجتمع المدني العلماني السوري، وأول من وضع العلمانية في صلب الرؤية السياسية، فبدت العلمانية في فكره مبدأً من مبادئ الاجتماع الحديث، لا لبس فيه ولا مداورة، وإن كان للمرء أن يأخذ عليه موقفه غير المتوازن من الديانات التوحيدية، ومن مسألة الدين بوجه عام. بيد أن الفكرة القومية عنده تحيل أيضاً على الأصل، أي على العرق السوري، الفينيقي، لا على الهوية التاريخية، بما هي هوية الاختلاف في وجود اجتماعي متعين في الزمان والمكان. ولا أدري إذا ما كان موقفه الاجتماعي القومي متسقاً إزاء السوريين وغير السوريين. فالكورد مثلاً ليسوا سوريين، وفق مصفوفته النظرية. ومن ثم فإن رؤيتي للاندماج القومي أو الوطني ولا فرق، لا تمتُّ بصلةٍ إلى رؤية أنطون سعادة، فأنا مدين لياسين الحافظ والياس مرقص وعبد الله العروي، وغيرهم من أعلام الفكر النقدي بصورة أساسية.
أعني بالاندماج الوطني أو القومي جملة متآخذة ومتكاملة من العمليات أو السيرورات التاريخية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية ترقى بالمجتمع من حالة التشظي والتناثر والانقسام والتحاجز إلى الوحدة، وحدة الاختلاف والتعدد والتعارض. وفي أساس هذه العمليات جميعاً عملية الإنتاج الاجتماعي، وارتقاء العمل البشري إلى عمل صناعي يدمج العلم بالعمل، ويقوم فيه العنصر الذهني بدور متزايد باطِّراد. والإنتاج الثقافي مرتبط أوثق ارتباط وأشده بالإنتاج الاجتماعي/ الاقتصادي، ويؤسس لبزوغ مجال مشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته الاجتماعية، على اختلاف مصالحهم ومصالحها، لا يلبث أن يتحول إلى مجال سياسي مشترك تعبر عنه الدولة الوطنية التي تقوم على مبدأ المواطنة العلماني، أي على تساوي المواطنين جميعاً أمام القانون، وعلى مبدأ سيادة القانون العام وسيادة الشعب. الاندماج القومي هو ولادة أمة حديثة، لا على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، بل على أساس المواطنة والمساواة بين أفراد مختلفي المشارب والانتماءات والمنازع يوحدهم العمل وينتمون جميعاً إلى الوطن/الدولة، مساواة سياسية أمام القانون، وعلى أساس المشاركة السياسية. ومن ثم فإن هنالك رابطة وثيقة بين الاندماج القومي والحرية، لأن الاندماج ليس عملية قسرية تفرضها جماعة أو فئة اجتماعية على أخرى، بل حاجة يولدها نمط الحياة الحديثة لدى جميع الأفراد وجميع الفئات الاجتماعية، أو الطبقات الاجتماعية التي تحلُّ شيئاً فشيئاً محلَّ البنى التقليدية ما قبل الوطنية، فينقسم المجتمع أفقياً إلى طبقات وفئات تضمر فيها التحديدات الدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية شيئاً فشيئاً، وقد تتلاشى، حين تتحول كل منها من طبقة بذاتها إلى طبقة لذاتها، ويغدو بوسعها إنتاج تمثيلاتها النقابية والسياسية والفكرية أيضاً. وبخلاف الانقسامات العمودية: الدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية، تولِّد الانقسامات الأفقية، أي الطبقية أكثرية وأقلية سياسيتين يمكن لكل منهما أن تتحول إلى نقيضها. واستطراداً تبدو لي المراهنة على العنصر الديموغرافي في الصراع العربي الإسرائيلي غير ذات معنى، ما لم تتحدَّث بنى المجتمع الفلسطيني، فتغدو علمانية وديمقراطية.
* الاعتقاد السائد، فيما يخص مفهوم الوحدة العربية، هو أن القوميات غير العربية تعتبر عوائق في طريق هذه الوحدة. وكان ميشيل عفلق قد كتب صراحةً أن الأكراد والبربر يعيقون قيام الوحدة العربية. فما هو نصيب هذا الاعتقاد من الحقيقة؟
لنقرأ بعض الوقائع: في عام 1957 تأسس أول حزب سياسي كردي في سورية جراء توجس الكورد السوريين من "المد القومي العربي" الذي شهدته خمسينات القرن الماضي، وهو في اعتقادي توجس مشروع، بحكم ما كانت عليه الحركة القومية العربية وما آلت إليه، ويخطئ من ينفي علاقة المآل بالمبتدى. وفي عام 1958، حين قامت الجمهورية العربية المتحدة، ازداد توجس الكورد في سورية والعراق. ويقال إنّ وفداً من الكورد ذهب إلى القاهرة، إبان محادثات الوحدة بين مصر وسورية، لتلمس ما سيكون عليه وضع الأكراد بعد قيام الوحدة، وإن عبد الناصر، الذي لم يكن يثق بالبعثيين، أشار إلى أن هؤلاء لا يمكن أن يعترفوا للأكراد بأي حق. وأنشأ في القاهرة إذاعة خاصة تبث باللغة الكوردية اعترافاً منه بحقوقهم الثقافية. وفي العام نفسه، برز توجس الموارنة في لبنان من وحدة سورية ومصر. مما يدل على أن الأقليات الدينية والقومية، على السواء، كانت، ولا تزال، تتوجس من المشروع الوحدوي العربي. وكان القوميون العرب، ولا يزالون، يرون في هذه الأقليات، ولا سيما القومية منها، قوى معيقة للوحدة العربية. وهذا بديهي في ظل تأخر بنى المجتمع بوجه عام، وبنية الوعي القومي السائد بوجه خاص. ولا يزال كثيرون من "القوميين العرب" يرون في الكورد حركة سياسية انفصالية تهدد وحدة "الوطن العربي" المفترضة. المسألة، فيما أرى تتعلق ببنية "الوعي القومي" لدى العرب والكورد على السواء. وقد أشرتُ في مناسبات عدة، ومواضع عدة، إلى أن المشروع الوحدوي الفعلي، القابل للتحقيق، هو المشروع الديمقراطي الذي يحقق مصالح جميع الفئات الاجتماعية والإثنية، بنسب متفاوتة بالطبع. فحين يتحقق الاندماج القومي، وتقوم عندنا دولة وطنية حديثة، قد يجد الكورد السوريون، أو العراقيون، مصلحة ما في الوحدة العربية، ولا يرى العرب في هؤلاء عقبة في طريق وحدتهم. المسألة، هنا، هي مسألة علاقة الوحدة بالديمقراطية، التي تفترض إعادة بناء مقولات الأمة والقومية والدولة القومية والوحدة العربية على أسس عصرية وحديثة. وحين يصير الأمر كذلك، يصير الكورد مخيرين بين الاندماج والانفصال، سواء كان هذا الأخير حكماً ذاتياً أو دولة مستقلة. يجب ألا تخيفنا فكرة الاستقلال الذاتي الثقافي أو السياسي، إذا كنا ديمقراطيين حقاً. العرب هم الذين يجعلون من الأكراد انفصاليين أو غير انفصاليين، وبيدهم تحويل المسألة الكوردية إلى عامل قوة بدلاً من كونها عامل ضعف حتى يومنا. ولو كان الوضع الدولي والإقليمي، واحتمالات تطوره في المدى المنظور، تسمح بقيام دولة كردية واحدة لجميع الكورد، ودولة عربية واحدة لجميع العرب، لكنت من أكثر المدافعين عن الأولى دفاعي عن الثانية. ولكن المسؤولية الأخلاقية تقتضي وضع حد لـ "هذيان الهدف" الوحدوي، ولآلام "الجرح النرجسي"، وتلمس ممكنات الواقع، لكي لا ندفع مرة أخرى ثمناً باهظاً من أجل لا شيئ، ثم نعود مرة أخرى إلى المربع الأول. أليس هذا مؤلماً؟ بلى، ولكنه واقع. وقد كتبت من مدة وجيزة أنْ: لا للوحدة العربية مع الاستبداد، ولا لتحرير فلسطين مع الظلامية، ولا، وألف لا، لعصر الرعايا وعصر الحريم. وأقول مثل ذلك في "المسألة الكوردية".
* لاحظت أن موقفك من الدولة القطرية عدائي نسبياً. وفي المقابل نقرأ ونسمع أطروحات مختلفة تؤيد تحول أقوام الدولة القطرية من خلال الاندماج إلى أمة مستقبلية؛ فالباحث العراقي سليم مطر، على سبيل المثال، يتحدث في كتابه "جدل الهوية" عن وجوب تجاوز الأقوام المختلفة لتمايزاتها والاندماج في "الأمة العراقية". ما رأيك في هذا المصطلح الجديد: الأمة العراقية؟ وهل يعبِّر عن معطى طبيعي وواقعي، أم عن حالة صنعية؟ وتبعاً لذلك، ما مدى واقعية أطروحة "الأمة السورية"، التي ينادي بها الحزب السوري القومي الاجتماعي؟
** أجل، كان موقفي من "الدولة القطرية" ولا يزال سلبياً، ولا أحب أن يوصف بالعدائية، لأن مفهوم العداوة ليس مفهوماً سياسياً. وما زلت أعتقد أن ثمة علاقة بين "الدولة القطرية" القائمة، بخصائصها المعروفة، وبين التبعية والاستبداد، بحكم الطابع الكومبرادوري الذي طبع هذه الدولة منذ نشأتها، وجعل مركز ثقلها الاقتصادي والمالي والتقاني والسياسي في الخارج؛ فهي، بمعنى ما، إحدى تعيُّنات "المسألة الشرقية" وتداعياتها.[3] ولذلك لا تزال علاقة الدولة القطرية بما يفترض أنه مجتمعها، علاقة تخارج وتنابذ؛ وكذلك العلاقة بين الشعب والسلطة السياسية. وقد عارضت في كتابي الأول "حرية الآخر" (1994) هذه "الدولة القطرية" بالدولة الوطنية، لا بدولة مفترضة للأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وأشرت إلى أن الدولة الوطنية، هي الدولة المستقلة استقلالاً ناجزاً، والتي تعبّر عن كلية المجتمع وعن سيادة الشعب، ومركز ثقلها الاقتصادي والمالي والتقاني والسياسي في الداخل، لا في الخارج. وما زلت أعتقد أن الدولة الوطنية هي شكل التوسط الضروري بين الدولة القطرية، سيئة الصيت، والدولة- الأمة المنشودة، التي تتوقف إمكانات إنجازها على المشروع الديمقراطي العلماني، الذي تتعرض حوامله الثقافية والاجتماعية والسياسية، اليوم، إلى محنة تقلص حظوظ نجاحه يوماً بعد يوم. فالمشروع الوحدوي، كما أراه، لا يكون كذلك، أي لا يكون مشروعاً ديمقراطياً، إلا بقدر ما يعبر عن اتجاه سير المجتمع كله، في كل بلد على حدة، وعن خياراته الاستراتيجية، وعن حداثة بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وتماسك نسيجه الوطني، وارتقائة إلى مستوى المجتمع المدني الحديث المندمج قومياً أو وطنياً، ولا فرق. لقد بات من الضروري أن نقيم الحد على أي شكل من أشكال التوحيد القسري البسماركي أو البونابارتي، وعلى النزعة الإرادوية لهذا الحزب القومي أو ذاك، أو لهذا "الزعيم" القومي أو ذاك.
على أن ثمة علاقة ضرورية بين مفهوم الأمة ومفهوم المجتمع المدني والدولة الوطنية. الأمة تجريد نظري يحيل على وجود اجتماعي متعين في المكان والزمان، ليس له من اسم آخر سوى المجتمع المدني، والدولة الوطنية هي شكله السياسي. إذن، تتعين الأمة واقعياً في المجتمع المدني والدولة السياسية بالتلازم الضروري، إذ ليس هنالك مجتمع مدني بلا دولة وطنية، ولا دولة وطنية بلا مجتمع مدني. وما دام الأمر كذلك، فثمة مسألة نظرية وعملية مطروحة على الفكر السياسي، اليوم أكثر من أي وقت مضى، تتعلق بالدولة القائمة بالفعل هنا والآن، في سورية أو في العراق أو في غيرهما، وبإمكانات تحولها إلى دولة وطنية لجميع مواطنيها، وصيرورتها من ثم دولة/أمة. في هذه الحال يغدو من البديهي الحديث عن أمة سورية وأمة عراقية، كما نتحدث اليوم عن مجتمع سوري ومجتمع عراقي، وشعب سوري وشعب عراقي. ومفهوم الشعب، استطراداً، هو المعادل السياسي لمفهوم الأمة. كلمة "الأمة" من الكلمات المقدسة في خطابنا السياسي، وغير قابلة للتحديد والتعيين، وغير خاضعة لسنن الكون والفساد، ومبدأ التشكل والانحلال. إنها، بالأحرى، جوهر ماهوي ثابت وخالد. وكان الله في عون من يحاول نزع طابع العصمة والقداسة عنها، وعن "المؤمنين" بها. ألا ترى أن "القومية" عندنا فعل إيمان؟
أعتقد أن الفكر السياسي عندنا مأخوذ بسحر الكلمات وقدسية بعضها وشيطانية بعضها الآخر، فهو يتحدث عن شعب سوري ومجتمع سوري ودولة سورية، وشعب عراقي ومجتمع عراقي ودولة عراقية، وشعب مصري ومجتمع مصري ودولة مصرية مثلاً، ويؤثم أي حديث عن أمة سورية أو أمة عراقية أو أمة مصرية. فكلمة "الأمة" التي تحيل على المجتمع والدولة، موقوفة في هذا الخطاب على الأمة العربية. الخطاب السياسي متناقض ومرتبك، في هذه الحيثية، وفي كثير غيرها. أنا لا أجد حرجاً في الحديث عن أمة سورية، بدلالة المجتمع المدني السوري والشعب السوري والدولة الوطنية السورية، أي بدلالة ما يمكن أن يكون في المدى المنظور، وليس بالمعنى الذي نجده عند أنطون سعادة، الذي هو نسخة معدلة عن الأمة العربية في الفكر القومي العربي. ولا أستطيع الحديث عن رؤية سليم مطر، لأنني لم أطلع بعد على كتابه الذي أشرت إليه، وكان بودي أن أفعل ذلك قبل الإجابة عن هذا السؤال فلم أقع عليه. وقد عرضت رؤيتي هذه بالتفصيل في كتابي الأخير "المجتمع المدني هوية الاختلاف" الذي صدر مطلع هذا العام.
* في التصور العام منظوران متضادان: الأول يرى أن حقوق الفرد تُصان من خلال الجماعة التي ينتمي إليها (فئة، طبقة، أمة .. إلخ) وهي عقيدة الأكثرية، والثاني، وأنت من أنصاره، على ما أعتقد، يرى أن حرية الجماعة هي نتاج حرية الفرد وحقوق الإنسان، فهلا ناقشنا قليلاً هذه المسألة، لأني أعتقد بوجود علاقة جدلية وتكاملية بين المنظورين.
** على صعيد التجريد النظري هنالك علاقة "جدلية وتكاملية" بين المنظورين، كما تقول، ولكنها علاقة صورية، ومن ثم غير جدلية. الجدل، بما هو منطق الواقع، أمر مختلف. لننطلق من البنى الاجتماعية السائدة في سورية: العائلة الممتدة والعشيرة والمذهب أو الطائفة. هذه البنى لا تزال توصِّف الأفراد، وتحدد ما هو أساسي في محمولاتهم الذاتية، فتحكم وعيهم وممارستهم إلى حد بعيد. وقد توضَّعت فوقها بنى حديثة: "طبقات" ونقابات وجمعيات وأحزاب سياسية، لم تلبث أن تلبست بأسوأ صفاتها، إذ أعاد الأفراد إنتاج انتماءاتهم ما قبل الوطنية وما دون الوطنية في هذه البنى التي يفترض أنها بنى حديثة. القاسم المشترك بين جميع هذه البنى، في بلادنا، هو عدم الاعتراف بفردية الفرد وفرادته وحريته واستقلاله، وعدم اعترافها بمبدأ الحرية. وأكاد أقول إنها جميعاً تقوم على مبدأ "الولاء والبراء"، الذي هو أساس التحاجز الاجتماعي وانقطاع عرى التواصل القائم والمستمر منذ قرون. حتى مفهوم الأسرة الحديثة، النُووية، أي المؤلفة من الأم والأب وأولادهما الصغار، لا يزال ملتبساً بتقاليد العائلة الممتدة، إذ يظل الأولاد، في الأعم والأغلب من الحالات، تابعين لأبويهم، بل لأبيهم، وإن بلغوا سن الرشد القانونية (18 سنة) وتجاوزوها. في حين يقتضي مفهوم الأسرة الحديثة استقلال الأولاد وحريتهم حين يبلغون سن الرشد، فهم أحرار في البقاء داخل الأسرة أو الانفصال عنها (لاحظ هنا مبدأ حرية الانفصال الذي هو مبدأ حرية)، وليس للأبوين أن يتدخلا في شؤونهم الشخصية، أو في تحديد اتجاهاتهم ومسارات حياتهم. الأولاد، وقد بلغوا سن الرشد يتحررون من تبعيتهم لأبويهم، ومن واجب إطاعتهما، ويحررون، في الوقت نفسه، أبويهم من واجب التربية والرعاية والإنفاق عليهم، فيصيرون جميعاً أحراراً بالتساوي. الحرية هنا مفهومة على أنها نقيض التبعية والولاء، وهذا معنى بالغ الأهمية في أوضاعنا، لأن مبدأ التبعية والولاء يضرب جذوره عميقاً في بنانا الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو المبدأ ذاته الذي كانت تقوم عليه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في العصور المملوكية والعثمانية، ولم تقطع مجتمعاتنا بعد مع هذا المبدأ. والاستبداد المحدث الذي تمثله الدولة التسلطية أعاد إنتاجه وعززه، لا بالتربية في الطلائع والشبيبة والحزب ومنظمات الضبط الأخرى فحسب، بل بالقمع العاري أيضاً. ومن ثم فإن كلمة السر لتحديث مجتمعنا هي الحرية، بدءاً بحرية الفرد وحقوق الإنسان. ولما كانت الأسرة نواة المجتمع وأساسه الطبيعي، فإن حرية أفرادها على النحو الذي أشرتُ إليه، يجعل الحرية أساساً لسائر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هنا تتجلى على نحو خاص أهمية الثقافة والتربية الحديثتين، إلى جانب الأهمية الحاسمة للعمل والإنتاج الاجتماعي، أي لنمط إنتاج الحياة الاجتماعية. التقانة الحديثة واستيراد المصانع وفق مبدأ "المفتاح باليد" لا تحدِّث المجتمع، بل قد تسهم في تعميق تأخره بزيادة الاستغلال، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، وزيادة تهميش الفئات الفقيرة، كما نلاحظ في الواقع. لقد تعلمتُ من الياس مرقص تعريفاً ضارباً للديمقراطية يقول: الديمقراطية هي الليبرالية زائد مفهوم الشعب. ومبدؤها الأساسي هو حرية الفرد وحقوق الإنسان.
اليساريون من القوميين والاشتراكيين، والثوريون الإسلاميون معاً، لا يقبلون هذا المنطق الليبرالي البورجوازي الغربي الدخيل على ثقافتنا، والغريب عن تراثنا. ومن ثم؛ فإن حظه قليل في المدى المنظور، ولكنني موقن بأهميته وضرورته، وبأنه سيظل على جدول أعمالنا حتى نشرع في تحقيقه. ولك أن تستخلص من ذلك بعض سمات "اليسار" في بلادنا.
العلاقة الجدلية، في هذا السياق لا تقتصر على صيرورة السبب نتيجة والنتيجة سبباً فحسب، بل هي بالأحرى علاقة العام بالخاص والفردي. فالعام، الأمة مثلاً، لا يتعين واقعياً إلا في الخاص؛ الطبقات الاجتماعية مثلاً، والفردي؛ أي في الفرد الاجتماعي والمواطن. فإذا كان الفرد تابعاً وموالياً وعاجزاً ومطاوعاً وقانعاً ومصدقاً ومسلِّماً .. فالطبقة التي ينتمي إليها كذلك، والأمة كلها كذلك. ماذا نعني حينما نقول : "الأمة العربية" مثلاً تُعدُّ نحو ثلاثمائة مليون فرد؟ هل نعني أن هؤلاء ثلاثمائة مليون رقم، أم يفترض أنهم ثلاثمئة مليون "أنا أفكر"؟! ليس هنالك أمة حرة بلا مواطنين أحرار، أو مجتمع حر بلا أفراد أحرار. حينما نقول: "سقراط إنسان" فإن هذه الجملة الإسمية، أو هذه القضية المنطقية تعني وحدة الموضوع سقراط والمحمول إنسان. العام والكلي، الذي هو الإنسان، يتعين في الفرد، سقراط. وليس له من وجود فعلي سوى في سقراط أو زيد أو عمر أو عبدالله أو هفال. وقل مثل ذلك في ظواهر الواقع المادي. هذا هو المعنى الفعلي لأفرادية الواقع وتعدد مكوناته واختلافها، وهذا معنى قولنا إن الوطنية أو القومية صفة للدولة، بما هي تجريد العمومية، وتحديد ذاتي لجميع مواطنيها، وليست حكم قيمة؛ وأن الدولة هي تحديد ذاتي للشعب، أي للمواطنين الأحرار المستقلين الذين ينضوون ضرورة في فئات وطبقات اجتماعية، وطوعاً في تنظيمات اجتماعية ومهنية وأحزاب سياسية وتيارات فكرية وأيديولوجية، والذين يضعون القوانين ويطيعونها، وليس للشعب سوى هذا المعنى. الخاص والفردي هما العام والكلي متعينين، هذا هو جذر العلاقة الجدلية بين الفرد، من جهة، والمجتمع والدولة، من الجهة الثانية. ولما كانت الماهية الإنسانية تتجلى في جميع أفراد النوع بالتساوي، فقد عرف كارل ماركس المجتمع المدني بأنه الإنسان مموضعاً، وكذلك الدولة السياسية، بما هي الشكل السياسي للمجتمع المدني.
لعل الفارق النوعي بين المنظورين أن المنظور الاجتماعي يقلل من أهمية حرية الفرد قياساً بحرية المجتمع، وقد يؤول إلى إلغاء الفرد، وإلغاء حريته بالتعدي. أما المنظور الفردي، الليبرالي إذا شئت، فليس بوسعه إلغاء المجتمع، لأن إلغاء العام والكلي هو إلغاء الخاص والفردي، من دون أن أنفي إمكانية الغلو والشطط والتطرف أو الإفراط في حرية الفرد، ولا سيما حين لا تعود حرية الفرد مُشرعَنة اجتماعياً. لا شك في أن حرية المجتمع قيد على حرية الفرد، والعكس صحيح. وقد أجمع المفكرون الديمقراطيون على أن سمة النظام الديمقراطي هي الاعتدال في الحالين. وليس بالإمكان تحديد مجال حرية الفرد في المجتمع نظرياً، فهذا لا يمكن تحديده إلا تجريبياً، في كل حالة على حدة، انطلاقاً من فرضية أن كل مجتمع ينتج نظامه العام ومؤسساته وتنظيماته وعلاقاته، في ضوء معطيات واقعه ودرجة تقدمه. ولكن المهم هو ألا نتخلى عن المبدأ، مبدأ الحرية، ولا سيما حرية الفرد.
* يمكن اعتبار هذا السؤال تتمة للسؤال السابق. يتحدث الياس مرقص عن جدلية الخاص والعام، ويرى أن الخاص هو عام، وأن مشكلة فرد واحد هي مشكلة الجميع. ولكن للقوى السياسية العربية رأياً مختلفاً، فنادراً ما تتطرق هذه القوى إلى المسألة الكوردية، وإن فعلت فإنها تراها على أنها مسألة خاصة بالكورد. فهل تتفق مع الياس مرقص، وترى، من ثم، أن المسألة الكوردية هي قضية العرب كذلك؟
** أشرت من قبل إلى أنَّ المسألة الكوردية جزء أو فرع من المسالة الوطنية الديمقراطية، سواء في سورية أو في العراق، أو في غيرهما. ومن المؤكد أنني على خطا الياس مرقص، وقد تمثلت رؤيته التي تقول إن مشكلة فرد واحد هي مشكلة الجميع، وعلى خطا ياسين الحافظ أيضاً. لا يحق لي أن أقول إنني أتفق معه، فأنا تلميذه[4] في هذه القضية وفي كثير غيرها، وقد تمثلت كل ما أعدُّه صحيحاً حتى اليوم، وقد لا يكون كذلك، وهذا يتعلق بحدود وعيي وحدود معرفتي، وهي قاصرة وناقصة بالتأكيد. أجل ياسيدي، إن مشكلة فرد أو جماعة أو عدد قليل، أو كثير، من الأفراد، هي مشكلة الجميع. ومن ثم، فإن المشكلة الكوردية هي مشكلة جميع السوريين في سورية، ويفترض أن تكون مشكلة جميع العراقيين والإيرانيين والأتراك في بلدانهم. وأنا أشعر بخجل عميق من ضروب التمييز والعسف والحرمان والإقصاء والاضطهاد التي مارستها، وتمارسها، السلطات السياسية باسم العرب، وباسم "القومية العربية"، إزاء الأكراد في سورية. بل أشعر بالعار إزاء المجازر التي ارتكبها الطاغية صدام حسين في شمالي العراق، ولعلك تحب أن أقول في كوردستان العراق، وليس عندي أي مشكلة في ذلك، لأنها أرض الكورد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وأشعر بالعار أكثر لأنني اكتفيت بالاحتجاج السلبي، أي بالشجب والإدانة والحزن والتعاطف. وأعتقد أن على العرب عامة، وفي سورية والعراق خاصة أن يتطهروا من هذا العار، وأن يعتذروا للكورد عما جرّته عليهم السياسات "القومية" من ويلات، هي جزء من الويلات التي أصابت العرب أنفسهم[5].
في الدولة الحديثة تنشاً بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية علاقة جديدة لم تكن معروفة قبل نشوء هذه الدولة، أعنى علاقة المواطنة التي هي جملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات تتعدى ما كانت تضعه الانتماءات ما قبل الوطنية. في ضوء هذه العلاقة يغدو اعترافي بحقوق الآخر المدنية والسياسية واحترامها والدفاع عنها، هو الضمانة الموضوعية لاعترافه بحقوقي واحترامها والدفاع عنها. ويغدو الدفاع عن حقوق أي مواطن من مواطني الدولة، هو دفاع عن الحقوق بوجه عام، بما فيها حقوق المدافع نفسه. فإن الانتقاص من حقوق فرد أو عدد قليل أو كثير من الأفراد، أو من حقوق جماعة من الجماعات أو فئة من الفئات، هو انتقاص من حقوق المجتمع كله، يغدو معه كل فرد مهدداً بانتقاص حقوقه أو بهدرها وتضييعها. وهذا هو معنى أن مشكلة فرد هي مشكلة الجميع. المواطنة صيغة حديثة للتكافل الاجتماعي، من أهم معايير حداثتها عموميتها وشمولها جميع مواطني الدولة، فضلاً عن قيامها على مبدأ المساواة أمام القانون. ومن دون هذه الصيغة تظل الوحدة الوطنية ناقصة ومثلومة.
وملاحظتك على القوى السياسية العربية في محلها، فإن جميع الأحزاب السياسية في سورية يغلب عليها الطابع الأيديولوجي القومي أو الاشتراكي أو المذهبي، ويصح عليها ما قلناه عن الأيديولوجيات الكبرى التي تعيش كلٌّ منها في عالمها الخاص، الذي نسجته من أوهامها وقبلياتها ومسبقاتها ومطلقاتها، لا في العالم الواقعي. ولأسباب كثيرة، لسنا في معرض الحديث عنها هنا، تحولت هذه الأحزاب إلى بنى موازية للبنى التقليدية، وهذا ما يفسر انشقاقاتها المتتالية وانكفاء أعضائها من المواطنين الكورد إلى أحزاب كردية خالصة، باستثناء عدد قليل يؤكد ما أذهب إليه أكثر مما ينفيه. ولا أعتقد أن مواقف الأحزاب المعارضة من المسألة الكردية يختلف كثيراً عن موقف الحزب الحاكم وجبهته الوطنية التقدمية، باستثناء حزب العمل الشيوعي. وقد بدأت كوادر قليلة العدد من هذه الأحزاب تتفهم المسالة الكوردية على أنها مسألة وطنية، ولم تتخلص بعد من رواسب وعيها السابق، فلا تزال مواقفها خجولة ومترددة. وأظن أن الحوار الوطني الذي انطلق منذ سنوات قليلة، وأخذت دوائره تتسع شيئاً فشيئاً، سوف يسهم في تلمس الأبعاد الوطنية والإنسانية لهذه المسألة، ويدمجها في رؤية وطنية ديمقراطية جديدة بدأت تتضح معالمها الأساسية؛ إذ أخذ نسق مفاهيمي جديد قوامه حرية الفرد وحقوق الإنسان ومبدأ المواطنة والمساواة وسيادة القانون وسيادة الشعب، وإعادة الاعتبار للمجتمع المدني والدولة الوطنية ... يشق طريقه، وإن بصعوبة كبيرة، إلى الخطاب الثقافي والسياسي، ولسوف يسهم في تفكيك النوى الصلبة لهذا الخطاب، وإعادة بنائه في ضوء معطيات الواقع وحقائق العصر الحديث. وإنني لعلى ثقة بوعود هذا النسق الجديد. فلقد دخلت سورية في مرحلة التحول الصعب من النسق الشمولي إلى دولة القانون والمؤسسات.
* المقولة الماركسية: "إن شعباً يضطهد غيره من الشعوب لا يستطيع أن يكون حراً" معروفة للجميع، ولكن قلة من المثقفين والسياسيين يدركون قيمتها، من هؤلاء الياس مرقص الذي يقول: "الأكثرية التي تضطهد الأقلية إنما تدمر شروط وجودها، ناهيك عن تقدمها وقوتها ومنعتها". ولعل الاحتلال الأمريكي للعراق خير دليل على صحة هذا الكلام. ولكن هناك في المقابل من يقول إن المسألة الكوردية تشكل تهديداً للأمن القومي العربي، ودليلهم على ذلك "تواطؤ" الأكراد مع الأمريكيين، فأين تقع الحقيقة بين هاتين الرؤيتين؟
** لا أوافقك الرأي أن مقولة ماركس معروفة للجميع، فهي ليست معروفة إلا لقلة ممن قرؤوا ماركس مباشرة، أي بلا وسيط سوفييتي أو صيني أو غير ذلك. وقلة من هؤلاء من وضعوا هذه المقولة في سياق ما سماه الياس مرقص "جدلية القهر" التي أشرتَ إليها. أدَّعي أن كارل ماركس لم يُقرأ جيداً في بلادنا، ولم يُفهم جيداً. فمن الظلم لماركس ولـ "الماركسية" أن تَنسب الأحزاب الشيوعية نفسها إليهما. كما أن النص الذي نقلته عن الياس مرقص يحتاج إلى تدقيق وتوثيق، مع أنه لا يتعارض البتة مع رؤية الياس مرقص الديمقراطية الإنسانية.
لا يستطيع تمثل مقولة ماركس هذه، وتفهُّم "جدلية القهر" إلا من يضع الإنسان في مركز وعيه، وفي مركز رؤيته الفكرية والسياسية، ويرى، من ثم، أن الإنسان هو معيار جميع القيم. وماركس، في هذا الجانب أحد كبار الإنسانويين، ووريث شرعي لفلسفة النهضة والتنوير.
لعله من غير المفيد اختزال الأسباب التي أدت إلى احتلال العراق في سبب واحد هو اضطهاد الأكثرية للأقلية، وهنا اضطهاد العرب العراقيين للأكراد العراقيين. فلهذه المسألة جوانب متعددة، أبرزها جانبان: الأول هو تصميم الولايات المتحدة الأمريكية على احتلال العراق، لا على إزالة نظام صدام حسين فقط. وجلاء هذا الجانب يحتاج إلى دراسة الاستراتيجية الأمريكية، بوجه عام، وبعد نهاية "الحرب الباردة" وزوال الاتحاد السوفييتي، بوجه خاص، وتعرف الوضع الدولي أو نسق العلاقات الدولية الذي مكن الولايات المتحدة من ذلك، على الرغم من معارضة المجتمع الدولي واحتجاجات الشعوب، بما فيها دوائر واسعة جداً من الشعب الأمريكي وشعوب الدول التي ساندت الإدارة الأمريكية. وقد قيل في ذلك الكثير وكتب الكثير. والجانب الثاني هو قابلية العراق للاحتلال، وهو ما يحتاج منا إلى اهتمام مضاعف. فالاضطهاد الذي مارسته السلطة العراقية البائدة شمل معظم العراقيين، إن لم أقل جميع العراقيين، انطلاقاً من جدلية القهر. والمجازر الجماعية التي ارتكبتها تلك السلطة الغاشمة لم تقتصر على الأكراد. وهذه وغيرها كثير، حيثيات مهمة تساعدنا على فهم بنية ذلك النظام والأنظمة المشابهة. ولا بد أن يسجل المرء هنا أن الأكراد العراقيين حاولوا أن ينجوا بجلودهم منذ 1991، تاركين وطنهم العراقي ومواطنيهم العراقيين في قبضة الوحش. ولا يزالون على الموقف نفسه حين يصرون اليوم على "الفيدرالية القومية"، في ضوء الصيغة التي أقرها "برلمان كردستان" عام 1992. وأنا لا ألوم الأكراد في ذلك، ولكنني أشير إلى نقص ما في المبدأ، مبدأ المواطنة، لا عند الأكراد وحدهم، بل عند جميع العراقيين، وعند جميع السوريين. من دون هذا المبدأ لا مستقبل، سياسياً، للعراق أو لسورية، إذ ستظل الانتماءات ما قبل الوطنية هي السائدة والحاكمة. أعتقد أن مشكلة العراق اليوم تتلخص في إعادة بناء المواطنة العراقية والوطنية العراقية، أي إعادة بناء دولة حديثة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية، وإنتاج عقد اجتماعي جديد قوامه الاندماج الوطني الذي يضمن الحقوق المدنية والسياسية والثقافية لجميع مكونات المجتمع. ومن ثم فإن الفيدرالية التي يقرها البرلمان العراقي، لا برلمان كردستان، هي أحد الحلول الديمقراطية لمشكلة الكورد في العراق. لأن البرلمان في كل دولة هو مؤسسة سيادية، وسيادة الدولة لا تتجزأ ولا تنتقل ولا تفوَّض.
الاضطهاد بوجه عام، واضطهاد الأقليات بوجه خاص، ينخر الدولة ويفتُّ في عضدها وينمي قابليتها للاستعمار، لأنه يفك جميع عرى التضامن، وجميع روابط الاجتماع المدني والسياسي. ولقد كنت، ولا أزال، أرى أن الاستبداد أكثر خطراً ووبالاً من الاستعمار، لأنه يستقدم الاستعمار، أو ينمي "القابلية للاستعمار". ليس الأكراد العراقيون وحدهم من رأوا في الاحتلال الأمريكي منقذاً ومخلصاً، ومن ثم لا يجوز الحديث عن تواطؤ الأكراد أو غير الأكراد، بل عن الاستبداد الذي ألغى المجتمع والدولة، وجعل من جميع مجالات الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً، هو مجال السلطة التي تحتكر كل شيء: الاقتصاد والسياسة والثقافة وقوة العدد والتنظيم والحقيقة والوطنية، وتحل مبدأ الولاء والتبعية محل مبدأ المواطنة، الذي قوامة الحرية والاستقلال والمساواة والمشاركة والمسؤولية. أظن أن المسألة، ولا أريد أن أسميها الحقيقة، تكمن هنا.
الأكراد العراقيون والسوريون إذا شئت أمام مفترق: إما أن يعملوا في سبيل بناء مواطنة عراقية جديدة ووطنية عراقية جديدة، ومواطنة سورية جديدة ووطنية سورية جديدة، في نطاق دولة حق وقانون حديثة مستقلة وذات سيادة، وإما أن يعملوا في سبيل دولة كردية مستقلة، والخياران، في نظري، مشروعان سياسياً وأخلاقياً بالتساوي، ولهما مسوغات ذاتية وفيرة، ولكن الحاسم في الأمر هو ممكنات الواقع بثلاثة أبعاده: المكاني والزماني والمنطقي، لا الرغبات والمشاعر والإرادات، على أهميتها. الخطاب الملتبس والمزدوج لا يفيد أحداً، ولا يفيد أصحابه بالدرجة الأولى.
لم أعتقد يوماً، ولا أعتقد اليوم، أن الأكراد يشكلون خطراً على "الأمن القومي العربي"، على الأقل لأنه لم يكن هناك، وليس ثمة اليوم، أمن قومي عربي. وهزيمة حزيران 1967، وسلسلة الهزائم اللاحقة كانت برهاناً قاطعاً على عدم وجود "أمن قومي عربي". وكل حديث من هذا القبيل هو أقرب إلى اللغو والهذر السياسيين. فماذا يعني الأمن القومي العربي إذا كانت الأنظمة السياسية العربية جزءاً من منظومة الأمن القومي الأمريكي، وإذا كان "الرجل المريض" لا يزال مريضاً، بتعبير محمد كامل الخطيب، وإذا كانت "المسألة الشرقية" يعاد إنتاجها في صيغ شتى: كالشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط الكبير؟ ولكن بعض القوميين العرب، للأسف، يبحثون عن "عدو" ضعيف، كالكورد، يمارسون عليه عقدهم القومية، ويداوون به جرح هويتهم النرجسية. القومويون، أو القومجيون، العرب يتعاملون مع رغباتهم وأوهامهم على أنها حقائق، وكذلك، بل أكثر من ذلك، القومويون، أو القومجيون، الكورد. والمشاريع القومية لدى أولئك وهؤلاء لا تزال أضغاث أحلام. أقول ذلك وأنا أعلم أن في هذا القول استفزازاً قد يؤرث التعصب القومي لدى الطرفين، ولكن لا بأس، ليخرج القومجيون كل ما في أحشائهم أكثر مما فعلوا حتى اليوم.
كنا نستهجن قول الصهاينة: فلسطين أرض بلا شعب. وكنا نحاول تفنيده بغير حق وبغير عقل، والحق والعقل صنوان، لأننا لم نكن نميز مفهوم الشعب من مفهوم السكان، ولم نكن، ولا نزال، لا نميز علم السياسة من علم الإحصاء، ولا ندرك الرابطة المنطقية بينهما. أليست لافتة للنظر السهولة التي أقيمت بها دولة إسرائيل، والسهولة التي جرت بها هزيمة "سبعة جيوش عربية"، والسهولة المماثلة التي هزم بها "العرب" أمام إسرائيل منذ 1967 حتى اليوم، فضلاً عن سهولة احتلال العراق؟ أعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي أنتج شعباً فلسطينياً في طريقه إلى إنتاج شكل وجوده السياسي دولة وطنية عاجلاً أم آجلاً، وقد عبرت عن ذلك الانتفاضة المجيدة الأولى، لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا منظمتا حماس والجهاد الإسلامي، ولا الانتفاضة الثانية التي تحولت إلى حرب إسرائيلية ويأس فلسطيني. بل أرى أن منظمة التحرير الفلسطينية ومنظمتا حماس والجهاد الإسلامي صارت عبئاً على الشعب الفلسطيني، وعقبات جدية في طريق تطوره السياسي، مثلها في ذلك مثل الأحزاب "السياسية"، العربية والكوردية، في سورية، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر. وأضع كلمة سياسية بين مزدوجتين لأشير إلى أن هذه الأحزاب هي بالأحرى أحزاب أيديولوجية، عقائدية، لا أحزاب سياسية وطنية[6]، لأن لكل منها وطناً على قده لا مكان فيه للآخرين. وأعتقد اليوم أن معظم البلدان العربية أرض بلا شعوب، وكذلك كوردستان سورية والعراق وتركيا وإيران أرض كوردية، أي أرض يقطنها أكراد، بلا شعب كوردي ولا أمة كوردية ولا قومية كوردية، بل عشائر وطوائف وإثنيات متحاجزة، وإلا كيف نفسر الاحتلال الأمريكي السهل للعراق، واحتمال أن يتكرر ذلك في غير مكان من "الوطن العربي الكبير" على نحو أكثر أو أقل سهولة. ألا ترى كم هذا مؤلم وصادم للمشاعر "القومية"؟ ولكن هذا الألم لا يتجاوز دائرة المشاعر والعواطف إذا لم نعد التفكير في مفاهيم الشعب والأمة والقومية والوطن والوطنية وغيرها ونعيد تعريفها. أمس ثارت ثائرة القومجيين والوطنجيين على أدونيس، الشاعر والمفكر المرموق، حين قال في بيروت وفي لبنان شيئاً من هذا القبيل، وقد قال حقاً، كما أعتقد، وأوضح أن ما قاله عن بيروت ينطبق على دمشق وبغداد وغيرهما من المدن الميتة. وستثور علىَّ ثائرة القومجيين العرب والكورد، ولكن لا مناص من قول ما نعتقد أنه حق. هل تعلم أن وعينا وفكرنا لم يرتقيا إلى مستوى الوعي الوطني، ناهيك عن الوعي الكوني والتاريخي، وأن فكرنا لا يزال متجهاً إلى الماضي، لا إلى المستقبل؟
منذ وقت غير قصير كتب ألبير ميمي، المثقف التونسي، من أبناء الأقلية اليهودية في تونس، كتاباً مهماً عنوانه "صورة المستعمِِِِر والمستعمَر"، يحكي فيه مأساة ضياعه واغترابه في ظل الاحتلال الفرنسي لتونس، إذ كان الفرنسيون لا ينظرون إليه إلا بوصفه وطنياً تونسياً, والمسلمون التونسيون لا ينظرون إليه إلا بوصفه يهودياً عميلاً ومتواطئاً. فهو منبوذ ومتهم من الجانبين، المستعمِر والمستعمَر. وأعتقد أن هذه الصورة تتكرر اليوم في العراق. فالأمريكيون، كما أعتقد، لا ينطرون إلى الكردي إلا بوصفه وطنياً عراقياً، وإن تعاون معهم، والعراقيون العرب لا ينظرون إليه إلا بوصفه كردياً عميلاً ومتواطئاً. أليس لهذه الإشكالية من حل؟ لقد كان الفرنسيون، في الحالة التونسية، والأمريكيون اليوم، في الحالة العراقية، على وعي حديث بمفهوم الوطنية يتجاوز الوعي التونسي والوعي العراقي بعشرات العقود. فمتى نرقى إلى مستوى الوعي الوطني؟ ذلكم هو الموضوع الأساسي في كل هذا الكلام الكثير.
* أنت تطرح العلمانية حلاً لمسألة الأقليات. كيف يمكن إقناع الكورد بذلك، وتاريخ الدولة التركية "العلمانية" في اضطهاد الأقليات غير التركية، كالأكراد والأرمن، معروف للجميع؟ ألا يدحض المثال التركي أطروحتك القائلة إنه: "لا معنى للعلمانية بلا إطار ومحتوى قومي"؛ فالقومية في تركيا تشكل عثرة في طريق العلمانية، أم إن هنالك ما هو غير واضح لدي؟
** أجل، العلمانية لا بد أن تكون في أساس أي حل يراد له أن يكون ناجعاً ودائماً لمسألة الأقليات بوجه عام، ولمسألة الأقليات الدينية والمذهبية بوجه خاص؛ لأنها شرط أساسي لازم أو ضروري من شروط الاندماج الوطني. وهي، أي العَلمانية، بفتح العين، من العَلم، بفتح العين أيضاً، أي العالم، لا من العلم، بكسر العين، مع أن كثيرين عندنا ينسبونها إلى العلم، بكسر العين. وتعني أن عالم الإنسان، المجتمع والدولة، هو من إنتاج الإنسان نفسه، وليس تجلياً لأي قوة مفارقة أو خارقة للطبيعة، وأن حقيقة العالم أو حقائقة مركوزة فيه، ولدى الإنسان ما يكفي من الملكات والمواهب والقدرات لاكتشافها وجعلها في تصرفه، لتحسين شروط حياته باطراد. ومبدأ هذا الإنتاج هو الحرية، بما هي وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وإمكانية الاختيار، لا بوصفها نقيض العبودية والتبعية فقط. والعلمانية في أصل مبدئها تقوم على ثلاثة أركان:
أولها الإنسانوية أو الإنسية التي تعني أن الإنسان هو المبدأ والغاية، لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية مهما سمت. وتعني احترام الإنسان وتقديره حق قدره لذاته، لا لحسبه ونسبه ولا لثروته ولا لقوته وجبروته، ولا لأي صفه أخرى من صفاته أو لأي من محمولاته، وأن جميع محمولات الإنسان تنسب إليه وتستمد قيمتها منه، فالإنسان هو معيار جميع القيم. الإنسانويون في التاريخ الحديث والقديم علمانيون بامتياز وعقلانيون بامتياز.
والثاني هو المساواة، لأن الماهية الإنسانية تتجلى في جميع أفراد النوع بالتساوي، فليس هنالك من هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر. فإذا جردنا الفرد المعين، زيد أو عمرو من جميع صفاته وتعييناته ومحمولاته تبقى لنا ماهيته أو جوهره الذي يشترك فيه مع جميع أفراد النوع بالتساوي؛ أما إذا جردناه من إنسانيته فلا يتبقى منه أي شيء. وأعتقد أن هذه المساواة كانت موضوع الصراع الأساسي بين العلمانيين والكنيسة، لا قضية فصل الدين عن الدولة فقط. لأن المساواة هي أساس الفصل، ولأنها النقيض الفعلي للامتيازات والمراتب، والعدالة هي تحقيقها الفعلي.
والثالث هو المواطنة التي تعني العضوية الكاملة في الدولة السياسية، أي في الدولة الوطنية أو القومية، ولا فرق. إذ تصير المواطنة هي العلاقة الأساسية التي تربط بين جميع مواطني الدولة المعنية، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية والطبقية وما إليها. ومن هنا تأتي أهمية مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، أو حياد الدولة الإيجابي إزاء جميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات والعقائد السياسية، وإزاء الانتماءات العرقية؛ لأن الدولة كائن سياسي وأخلاقي يعبر عما هو مشترك بين جميع مواطنيها، ولذلك يقال إن الدولة هي تجريد العمومية، وتحديد ذاتي للشعب. وهذا معنى قولي إنه لا معنى للعلمانية بلا محتواها القومي أو الوطني، بالمعنى الذي أشرت إليه قبلاً.
ولكن العلمانية ليست بلسماً لجميع الجراح ولا حلاً لجميع المشكلات، ولا سيما مشكلة الأقليات القومية التي أرى، على خطا ياسين الحافظ والياس مرقص، أن حلها النهائي يتوقف على النمو الديمقراطي في المجتمع المعني والدولة المعنية. وهنا تبرز الرابطة الضرورية بين العلمانية والديمقراطية، فليس ثمة ديمقراطية ولا يمكن أن يكون ثمة ديمقراطية بلا علمانية. العلمانية هي جذر الديمقراطية ونسغها الحي.
أما العلمانية التركية الهشة والمثلومة، فتفتقر إلى أركانها الأساسية: الإنسية والمساواة والمواطنة، ولم تندرج بعد في مشروع ديمقراطي تركي واضح المعالم، على الرغم من التحسن الذي شهدته السنوات القليلة الماضية، في سياق سعي تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوربي. والسبب، في اعتقادي يرجع إلى تأخر تركيا وتبعيتها الشديدة للمراكز الرأسمالية، وموقعها الهامشي في المنظومة الرأسمالية، وهيمنة المؤسسة العسكرية على مقدراتها السياسية. وأكاد أسمي ما حدث في تركيا منذ الثورة الكمالية غربنة، لا علمنة. ومع ذلك تقدمت تركيا على كثير من الدول العربية، بفضل "فصل الدين عن الدولة"، بكل ماله وما عليه. مشكلة العلمانية التركية هي البدء من النهاية، أي مما صارت إليه الدولة القومية في الغرب، على صعيد فصل الدين عن الدولة الذي كان في الغرب نتيجة لنمو متكامل في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقانية والسياسية والأخلاقية، ومنضبط بموقع الفئات الاجتماعية على سلم الإنتاج الاجتماعي، وحصة كل منها من الناتج القومي والثروة الوطنية وعوامل الإنتاج، وفي تركيا، كما في جميع البلدان المتأخرة، اختلال واضح في هذا المجال. وقد يصح وصف الكمالية في تركيا والناصرية في مصر بأن كلاً منهما كانت "ثورة من فوق" بتعبير ياسين الحافظ، وسمت الحياة العامة، ولا سيما الحياة السياسية، بميسم "القوة الثورية" التي هي الجيش والأمن. على أن الكمالية نمت وتطورت، بدعم الغرب ومؤازرته، بخلاف الناصرية.
دمشق: شباط، 2004
هفال يوسف، كاتب سوري مهتم بالشؤون الكوردية، وعضو في هيئة التحرير المشرفة على موقع مشروع ثروة.
[1] - وكان يمكن أن أضيف والجماعة الإثنية.
[2] راجع، جاد الكريم الجباعي، حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية، دار حوران، دمشق 1994 ، ص 20 وما بعدها.
[3] - أحيل القارئ هنا على كتاب خلدون حسن النقيب "الدولة التسلطية في المشرق العربي"الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية. وعلى سلسلة الكتب التي تناولت موضوع الدولة والمجتمع في مصر والمغرب العربية وفي المشرق العربية والجزيرة العربية، وكلها صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية. وعلى كتاب محمد كامل الخطيب "المسألة الشرقية، ما زال الرجل مريضاً".
[4] - تشير هذه الكلمة إلى تواضع ينمُّ عن خُلُقٍ رفيع، يفتقر إليه أغلب مثقفينا، ولعل في ذلك دلالة إلى: لماذا فكرت في محاورة هذا الرجل؟
[5] - على الرغم من أنَّ أبناء القومية العربية، الذين لا يوافقون على سياسات الأنظمة السياسية، لا يتحمّلون مسؤولية ما يحدث باسمهم، إلا أنني أتفق مع الأستاذ في هذه النقطة، لأنَّ اعتذاراً كهذا لن يعني اعترافاً بالذنب، بقدر ما سيعني إشهاراً للبراءة، مما يفتح الباب أمام مستقبل أفضل مبني على التسامح والتعايش، فموقف الجامعة العربية المشين، وسّع الهوة ورسّخ الكراهية. وبالتالي، فهو قدوة سيئة لمن يتطلع لغدٍ أفضل.
[6] - أرجو ألا يفهم من نفي صفة الوطنية عن الأحزاب الأيديولوجية أي معنى من معاني القدح والذم، أو التقليل من شأن هذه الأحزاب أو من شأن عضويتها. فليس للوطنية عندي أي معنى قيمي مستقل عن المعنى السياسيي، وعن المعنى الدلالي والاصطلاحي للكلمة، في ضوء المصفوفة النظرية التي أنطلق منها. فللوطنية عندي معنى العمومية، ولذلك أرى فيها صفة للدولة وتحديداً ذاتياً لجميع مواطنيها. ولا أعتقد أن أياً من مواطني الدولة الحديثة في حاجة إلى صك براءة وطنية من أحد. فصفة الوطنية التي أطلقها على الحزب السياسي كصفة الوطنية التي أطلقها على الثقافة حينما أتحدث عن ثقافة وطنية، أو على الصناعة، حينما أتحدث عن صناعة وطنية أو اقتصاد وطني.

0 Kommentare:

Kommentar veröffentlichen

Abonnieren Kommentare zum Post [Atom]

<< Startseite